الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الناس والحرب».. يوميات العبور «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى المقال السابق، روى العقيد أسامة على الصادق، كيف تسلم تكليف العبور فى اليوم الموعود الذى انتظره مع رجاله 6 سنوات ليستردوا فيه كرامتهم وكرامة الشعب المصرى بعد نكسة 1967، تدريب شاق وعمليات فدائية خلال حرب الاستنزاف وإصابات وشهداء، كل هذا وكتيبة أسامة والجيش المصرى كله، بل ومصر كلها فى انتظار ساعة الصفر التى سيعبرون فيها إلى الجانب الشرقى من القناة لينسفوا فيها أكذوبة «الجيش الذى لا يقهر».
يقول الضابط المقاتل أسامة الصادق الذى حصل على نوط جرحى الحرب ونوط الجمهورية من الرئيس السادات بسبب بطولاته فى الحرب ضد العدو الصهيونى وإصابته مرة أخرى فى حرب 1973، فى كتابه «الناس والحرب» الصادر فى 2007: تعدت الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر هذا اليوم الرائع فى تاريخ الشعب المصرى والعربي، لقد كان شيئا غريبا وملفتا للنظر ما يجرى على جبهة القتال خاصة فى الخط الأمامي، هذا الخط الذى لا يفصلك عن العدو سوى قناة السويس بمسافة مائتى متر على أقصى تقدير.
ويصف الصادق مشاعر أفراد كتيبته قبل عبور القناة بالقوارب قائلا: نعلم أننا مفرزة نطاق أمن الفرقة، والتى يعرفها من المتخصصين يعلمون أنها المدفوعة للاشتباك مع العدو، وبالتالى يكون العدو فى أشد قوته ويستطيع بإمكانياته الكبيرة وخشيته على قواته الواقعة تحت نيران قواتنا من القتل والتدمير والأسر أن يقوم بكل ما يستطيع لأن يسحقهم؛ إذًا فهم سوف يحصلون على حموة الموس والصدمة الأولى لقوات العدو.
وعن حال الجبهة فى اللحظات الأخيرة قبل العبور يقول: سكون تام فلا حركة وكل خلف سلاحه وإذا كان أى إنسان يريد معرفة ما يحدث لهؤلاء المرابضين فعيون يقظة وعقول تائهة وقلوب تنبض بقوة كأنها أصوات مدفعية ميدان.
«قريب منى المعاونون لى فى مركز القيادة.. معى فى مركز الملاحظة ثلاثة عمال أجهزة لاسلكى متوسط المدى لا يقل مداه عن خمسين كيلومتر وثلاثة أجهزة اتصال لاسلكى قصيرة المدى مداها خمسة كيلومترات من نفس النوع المتواجد مع ضباط السرية والوحدات التى تعمل معى، ثم عدد ثلاثة أجهزة تليفون ميدانى للاتصال بقادة الوحدات الكبرى».
ويسترسل فى وصف اللحظات «الثقيلة التى سبقت ساعة الصفر قائلا: تعدت الساعة الواحدة والنصف وأنا فى حالة من اليقظة والانتباه وجنودى صامتون والحركة على جبهة القتال خاصة فى موقعى تدفع إلى الرعب، إنه الانتظار القاتل.. كان وقتا طويلًا علينا.. كل ينظر إلى الآخر ولسان حاله يتساءل: هل سيشاهد هذا الزميل مرة أخرى سواء نال هو الشهادة أو زميله؟ كنا قد وصلنا إلى حالة من الروحانية العالية وقد أدى هذا إلى أن سرح البعض منا مع عائلته أو أحبائه وقد كنت منهم، فلقد طار بى الفكر والخيال بعيدا ولم أفكر فيه راغبا.. لقد كان الموت قريبًا منا بشكل ما ورائحته أقبلت من الشرق جهة الأعداء، كنت أفكر كيف سأعبر بجنودى وبهذا العدد الكبير القناة بمفردنا دون قوات من حولنا؟ وكيف سأصل إلى المنطقة المحددة لى وطولها ما بين ستة إلى سبعة كيلومترات دون قوات مجاورة لى تساعدنى وقت الحاجة، كيف سيحمل الجنود الاحتياط الذخائر والصواريخ لإيصالها إلينا والمعركة دائرة؟ المعركة سوف تكون بين المشاة العراة من أى درع حديدى وبين الدبابات والمدرعات الإسرائيلية.
كسرت لحظات الصمت والسكون الرهيبة صوت الطائرات الهادر المفاجئ التى عبرت فى سماء القناة متوجهة إلى الشرق، وكانت تلك هى المرة الأولى التى يرى فيها أسامة وجنوده طائرات مصرية تعبر من فوقهم لتقصف العدو، «إنها الميج 21 هاجمت أعماق سيناء ونحن نشاهد الانفجارات تتوالى وأعمدة الدخان تتصاعد دليلًا على إصابة الأهداف بدقة».
وقف أسامة صائحًا: احملوا القوارب؛ ويضيف: «حملت الفصيلة المحددة القوارب وأنا أصرخ بهم، تحركوا إلى الثغرات لعبور القناة، شاهدتهم متحجرين.. أطلقت عدة دفعات من سلاحى قريبا منهم وقد أفاقهم هذا الصوت».
ويتابع: «بصوت آمر حاد قلت للنقيب حسن؛ سأعبر أنا معهم وأنت تحضر مع باقى القوة، أى بعد وصولنا إلى الشرق واحتلالنا الساتر الترابي؛ تسلمت منه علم الجمهورية.. الآن القوارب الثلاثة فى المياه ويدفع كل قارب جندى ثم يقفز بداخله، وأنا أقف فى وسط أحد تلك القوارب ملوحا بعلم مصر أمام الجميع.. أشير إلى جنودى هاتفا الله أكبر.. الله أكبر وابتعدت عن الضفة الغربية لقناة السويس وأنا الذى شاهدتها منذ أكثر من ست سنوات فى آخر مرة، شتان ما بين التاريخين.. وتبتعد الصورة أكثر فأكثر كلما اقتربت قواربنا من الضفة الشرقية.
«القناة على الأجناب فارغة ليس بها قوارب سوانا ونحن الذين سنحصل على حموة الموس وقبل أن أبلغ الضفة الشرقية أشاهد باقى القوارب والقوة الرئيسية ومعهم النقيب حسن يحركون مجاديفهم سابحين خلفنا.. وأصبحنا أكثر من ثلاثمائة ضابط وجندى بداخل المياه ولا توجد قوات خلفنا أو عن اليمين سوى موقع نمرة ستة، والذى يبعد عشرة كيلومترات جنوبا، فنحن بدون حماية، دعوت الله ألا تكون وحدة من العدو متربصة بنا».
وفور وصوله الضفة الشرقية للقناة حمد الصادق الله، ورغم عدم وجود سلالم لصعود الحاجز الترابى صعد أسامة ومن معه الساتر حاملين مضادات الدبابات وذخائرهم هاتفين الله أكبر، ولوح الضابط لباقى قواته فى المياه بعلم مصر، فزادهم ذلك اشتعالا وحماسا ووصل باقى الجنود وحملوا مدافعهم ومعداتهم وصعدوا متحدين الطبيعة والوزن الزائد، ووزعهم فصائل ووحدات.
رغم هول الموقف إلا أن الفرح والشوق جعل بعض جنود الفرقة ينسون خطر الحرب ويسجدون ليقبلوا رمال سيناء.. واصل أسامة وجنوده التقدم فى اتجاه تبة «الكنتور»، وبدأ العدو يقصف الساتر بالمدفعية، حدد القائد لأفراد قوته مواقعهم واختار لنفسه موقع القيادة.
«كانت تعليماتى لقواتى بعدم فتح النيران على قوات العدو إلا بعد أن يشاهد المراقبون فى كل فصيلة تدمير الدبابة التى فى أول (القول- الطابور).. أبلغنى قائد الفرقة بأن الاحتياطى المدرع الإسرائيلى تحرك فى اتجاهنا.. عبرت الدبابات الإسرائيلية من أمامى وعامل اللاسلكى يبلغ القيادات المختلفة عن كل صغيرة وكبيرة ويأتى إلى صوت قائد الفرقة صارخا؛ لماذا لم تشتبك حتى الآن؟ سيفلتون منك ولحظتها تنفجر أول دبابة للعدو وتتوقف الدبابات خلفها فلقد أغلق عليهم الطريق، الدبابة التالية تحاول فتح الطريق بإزاحة الدبابة المشتعلة، والتى دمرتها النيران سواء من القاذف أو من الانفجارات الداخلية لانفجار ذخيرتها ونشاهد الدبابة الأخيرة تنفجر.
ويكمل: «هكذا تم حجز الدبابات والعربات المدرعة بداخل تلك المصيدة لقواتى ونجحت خطتى ونفذها جنودى ببراعة وانهالت القذائف عليهم؛ حاولوا الإفلات منها بأى طريقة مما دفع بإحدى الدبابات الإسرائيلية للسير جانبا فغرزت فى الملاحات، حاولت الخروج وكل مرة تحاول الخروج يزداد غرسها فتركها جنودها هربا للحاق بأى دبابة أخرى، لكن رشاشاتنا لاحقتهم فأردتهم قتلى فى الحال.
«أصبحت المعركة مفتوحة وكل من يجد الهدف فى مرمى سلاحه يقذفه فورا.. الساعة تقترب من الرابعة مساء، أغارت علينا بعض الطائرات المنخفضة، ولكن صواريخ الكتف سام 7 أصابت إحداها وسقطت قريبة منا، ابتعد الإسرائيليون.. وهكذا مضى من الوقت ساعتان وأبطال تدمير النقاط القوية يحاولون بكل جهد جهيد تدمير أكبر عدد منهم وتلتقط قواتنا مكالمات الإسرائيليين اللاسلكية ويذيعها قائد الفرقة فى إرسال شبكته وجنود العدو فى حالة من الصرع صارخين يستغيثون والرجل يعلق؛ همتك معانا يا أسامة يا بطل أنت ورجالتك الجدعان، اسمع نداء قائد اللواء- برافو عليك يا بطل الله اكبر-، ويردد البعض من حوله «الله أكبر.. الله أكبر».
ونستكمل يوميات العبور فى المقال المقبل