الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السكان الأصليون لليوتوبيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
فى حوار أمريكى سُئل جاك ديريدا حول الأعلام القدامى لو تسنى له أن يعرفهم ما الذى كان سيغريه ليعرفه عنهم، أجاب فى إجابة سريعة سأقول: «حياتهم الجنسية».
وفى حوار شهير مع ميشال فوكو حول الأثنوغرافى النموذجى فى عرفه، أجاب بأنه ينبغى أن يكون من سكان المريخ لكى يجيد الوصف ويفرغ من الأحكام السابقة.
ومن المثير للعجب أن نلاحظ أن أول شىء يلاحظه المستكشفون أشباه العلميين حول السكان الأصليين للأراضى التى تحضر الجهة الممولة للاستكشاف نفسها لاستعمارها، هو الحياة الجنسية التى يُبنى عليها حكم «أخلاقي» خارجى يُسهّل عملية تحويل «السكان» الفعليين إلى سكان أصليين، ومن أحقية امتلاك المكان إلى ارتباط هش وتاريخى، أى أنه ارتباط غير منتمى للواقع الذى يخضع لتشكيلات خطابية تمنح لصانعها الحق فى الهيمنة على المكان.
العنصر الآخر الجدير بالتأمل هو حرمان التصور البشرى لأهل المريخ (أو سكان الفضاء الآتين إلى الأرض) من الحياة الحميمية؛ كائنات غير جنسية بامتياز.
تنويعات
دعونا أولًا نحاول توضيح ما يمكن توقعه من المدينة الفاضلة، فى التفسير الحالى المعطى، سيكون المعنى الأقرب هو التحول عن صعوبات اللحظة المشبعة بالشعور التراجيدى المصاحب لمسيرة الإنسان على الأرض من خلال استثارة تمثيل أفضل فى المستقبل. هذا المفهوم القاعدى لليوتوبيا، الذى يجعل مبدأ السعادة المختصرة فى صورة المتعة الطفولية يسود على مبدأ الواقع فى صورة تعمل دائما ضد اليوتوبيا؛ لأنها تفرغ هذه الأخيرة من أى أمل فى الواقعية. 
وهنا وجب السؤال حول صورة غزاة الفضاء القدامى الذين كان الغرباء عندهم هم غريبو الأطوار من السكان الأصليين للأراضى البعيدة التى علمهم رائد الفضاء الأول (كريستوف كولومبس؛ وليس نيل أرمسترونغ ولا يورى غاغارين) أن ينتقلوا إليها بعد وصف أهلها بوصف بريء بشكل خال من البراءة «السكان الأصليون»... هل «الأصلي» مجرد وصف ذات طابع تاريخى، بمعنى أنهم وجدوا بهذه الأرض قبل غيرهم، مما لا يعطيهم أى أولوية دينية –على اعتبار أن الفكرة الدينية التى حركت غزو الفضاء القديم تقتضى بأن الأرض لله وليست للسكان الأصليين، ولنتذكر بأن أول وأشهر من موّل رحلة كريستوف كولومبس هى إيزابيلا «الكاثوليكية»...؟
أم أن الأصليين هى تسمية تدل على «مادة» خام ما تحتاج «تصنيعا» من قبل الرجل الأبيض الذى حمل نفسه مسئولية معينة «حمل الرجل الأبيض» الذى سيطرح مع مطلع القرن العشرين إشكالية جديدة حينما يدعى الجرمان بأنهم أكثر بياضا من البيض الآخرين الذين لا يتضح بياضهم جليا.
غزاة الفضاء الذين تصورهم هربرت جورج ويلز عند مفترق القرنين ١٩ و٢٠ فى روايته «حرب العوالم» هم رجال خضر اللون. لون مثير للانتباه، فالأخضر فى الثقافة البشرية يكتسى معانى كثيرة يغلب عليها أن تكون متنافرة مناقض بعضها لبعض: اليد الخضراء فى أوروبا هى يد كثيرة الخير والبركة وصاحبها ينبت ويتكاثر كل ما يزرعه، واليد الخضراء فى الثقافة المغاربية هى يد الرجل الصادق، معنى قد ينسحب على النبى «الخضر» الذى يعلم كل شيء ويقيم ميزان الحق، ولكن الأخضر يدل على الطبيعة والطبيعة كتاب متداخل المعاني: فالذهن الأخضر ذهن الشباب الذى يعوزه العلم وتنقصه التجربة على عكس النبى الخضر، والجنة خضراء، والشباب أخضر، ولكن الأخضر دال على الوسخ فى الشرق الأقصى، وهو لون يضعه دانتى أليغييرى فى المطهر وليس فى الجنة كما نتوقعه نحن.
الحاصل هو أن رجل الفضاء فيما نراه يأتى فى رواية «حرب العوالم» لهربرت جورج ويلز ليدمر الكوكب الأخضر لأجل إحلال لون آخر لن نكتشفه لأن رجال الفضاء فى الرواية، بعدما يسحقون البشر بشكل صاعق سريع مرعب، وبعدما يقتنع البشر بأنهم ميتون بائدون لا محالة، ينتهى بهم الأمر إلى أن يموتوا تلقائيا تحت أثر الجراثيم الأرضية التى لم يكونوا محصنين ضدها. فاللون الأخضر هو الذى يقتل اللون الأخضر فى نهاية الأمر.
كان هذا اللون هو نفسه الذى يستعمله مصممو البطاقات البريدية ذات البعد الدعائى بدءا من منتصف القرن التاسع عشر لتقديم صور للجزائر مغرية للشباب غير الراغب فى الانضمام إلى الجيش الفرنسى لغزو الفضاء الجزائرى... بطاقات أهم ما فيها صور نساء عاريات مغريات يتجولن بحرية فى الواحات الخضراء، يوطوبيا جنسية نصفها الوصف الجنسانى للسكان الأصليين على أنهم يوفرون للغزاة ممارسة جنسية متحررة يرفضها الخطاب الرسمى فيبرر الاستعمار فى البداية لكى يحول هذه الممارسة إلى عنصر جذاب للجنود المترددين أو الذين يشتكون الجفاف الجنسى الأوروبى الذى تحدده الممارسة الكاثوليكية.
سيتردد كثيرا رجل المريخ الذى يقترحه فوكو لتحليل الوضع على كوكب الأرض.. فصورة الإله مهيمنة على هذه المعطيات بشكل كبير، وعندما يقرأ زائر المريخ الأثنولوجى رسائل عميد غزاة الأسبان كورتيز إلى الملك وهو يصف ما تم تطهيره من «الكفار» فى المكسيك لأجل إقامة ملكوت الرب، سيعتريه رعب شديد من حجم الكوارث التى هى مهد لمملكة المكسيك الحديثة التى هى ممكلة تسبح بحمد المسيح وتمجد اسمه المبارك... مملكة يتحول فيها النكاح الذى هو تحصيل حاصل إلى إبادة «الجنس» البشرى بدلا من التواصل الليبيدوى اللذيذ معه... هو نفسه الإله الذى سيقف ضده سبينوزا داعيا العقل الرياضى إلى محاولة تحديده بدلا من العقل المقولاتى المشبع بالنقول الذى لم يعد صالحا للبت فى المسائل العابرة للقارات، بما أنه إله يسمح إذا ما عبرنا من قارة إلى قارة يعد الإنسان حيوانا ويأمر بتصفيته. ولنذكر بأن العنوان الأصلى التام «لرسالة الأخلاق» لسبينوزا هو: Ethica Ordine Geometrico Demonstrata... أى «رسالة الأخلاق مفسرة حسب المبادئ الهندسية»... على اعتبارين؛ أولاهما أن الرياضيات هى العنصر البشرى تماما والذى لا وجود له فى الكتاب المقدس، وثانيهما أن الرياضيات علم يهيمن فيه الموضوع على الذات، فهو يحقق مبدأ التفاهم والتحاور والتوافق الذى ستدور حوله الفلسفة فى العصر الحديث. 
مجمل القول
إذا كان زائرنا المريخى سيكتب تقريرا حول زيارته كما فعل «ميكروميغاس» رجل الفضاء الأول الذى زار أرض الفلسفة والأدب معا (فى قصة فولتير الفلسفية الحاملة للعنوان نفسه)، فإنه سيطيل الحديث عن مفهوم اليوتوبيا، ذلك المكان الغريب الذى يسكنه سكان أصليون رغم أنه مكان غير أصلى لأنه نتاج العقل والتخييل (حاصل فى الأذهان كما عبر عنه أبونصر الفارابي)...ولكنه سيجد لدى «جيل دولوز» تفسيرا بديعا لطريقة بناء اليوتوبيا فى العرف البشرى، فهو يتحدث فى كتابه «الاختلاف والتكرار» عن الرواية الطوباوية لصموئيل بتلر «إرهون» Erewhon، وهى كلمة إنجليزية عكست no-where بمعنى «لا مكان» الذى هو المعنى الحرفى للفظة اللاتينية utopia، تعبير يقرأ بطريقتين: «لا مكان»، أى «ليس هناك»، مما يترجم كأنه «خارج المكان» أو «فى أى مكان»، ويعيد دولوز كتابة العنوان بالشكل التالي: now-here بدلا من no-where... لتصبح اليوتوبيا الحقيقية هى تنويعات أبدية بآلة الخيال على ما يحدث فى اللحظة البشرية بامتياز «الآن... و... هنا».