الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

روح من مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعتقد كثيرون أن الكتابة الساخرة كتابة سهلة، وأن الهدف منها هو إضحاك القارئ المتجهم، ورغم كثرة الساخرين فى الصحف السيارة وعلى فرش الجرائد فى الشوارع، لا تستطيع أن تشير إلى موهبة فى حجم جلال عامر الذى ظهر فجأة واختفى فجأة، ولكنه ترك أثرا فى فن الكتابة الرشيقة العميقة، وليست الساخرة، المعيار الوحيد: هل هو كاتب أم لا؟ الكبار والصغار أجمعوا أن الشيخ عبدالعزيز البشرى هو الأهم، وتراثه يؤكد هذا رغم تباعد الزمن، بكتاباته (فى بابه الشهير فى المرآة وفى كتبه القليلة) قدم فتحا لنوع فريد من الكتابة يرقى إلى مستوى الأدب، رغم أن الهدف من كتابتها كان صحفيا، البشرى (1886 ـ 1943) كتب عنه طه حسين وخيرى شلبى وغيرهما مقالات ودراسات فى غاية العذوبة، الثانى كان يعتبره أستاذه فى كتابة البورتوريه، واعترف أكثر من مرة بفضل الرجل عليه وعلى الكتابة، شلبى استعار آلياته وهو يكتب عنه، كتب عن ملامحه دون أن يراه، الصور الفوتوغرافية المتاحة له محدودة للغاية، يستهل الكتابة عنه «شمامة إسماعلاوية طابت واستوت حتى تفتقت من أسفلها فصار منظرها فاتحا للشهية بعطرها الفواح الأرستقراطى النكهة»، الأستاذ خيرى كان يمتلك فراسة نادرة فى الأدب والحياة، يحمل قاموسا يخصه، وتعلم من الحياة أشياء لا تعلمها الكتب، ولذلك حين يصف شيئا، تجد فرادة فى التناول واللغة وخفة الدم أيضا، يصف وجه البشرى (ابن أحد مشايخ الأزهر) «وجه مستطيل جارم الأطراف والملامح، كل ملمح فيه يريد أن يطغى على بقية الملامح، ولهذا صار وجهه ميدانا فسيحا تدار فيه المعارك بين الملامح، يحتدم فيه طغيان القسمات ومع ذلك تتكافأ الصراعات فيظل كل ملمح محتفظا بحدوده الآمنة وإن سمح له بإلقاء ظله على الآخر فى نوع من التواد والمحافظة على حسن الجوار»، نذهب إلى البشرى نفسه لنقرأ مقتطفات هو يرسم زيور باشا «أما شكله الخارجى وأوضاعه الهندسية ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية فذلك كله يحتاج فى وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة... وهو عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشابكة: فهو عندكم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو زكى وغبى، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطنى حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه يجود منها الطارف والتلاد !!...» وينهى البشرى البورتوريه بأن زيور باشا لا يصلح لإدارة أى شىء، أنت هنا أما كتابة لها معنى، يوجد حافز وراء كتابتها، لا يوجد، ابتزال ولا استجداء ابتسامة، فى كتابة العظيم «المختار.. بجزءيه» ستجد كاتبا عليما بفنون شتى، عالما باللغة والموسيقى والأدب، مقاله عن قارئ زمانه الشيخ أحمد ندا سيعيش فى وجدان عشاق فن التلاوة، الدكتور طه حسين يرى أن ما يميز أدب البشرى «أنه جمع خصالا ثلاثا، فلاءم بينها أحسن ملاءمة، وكون منها مزاجا معتدلا رائع الاعتدال، فهو مصرى قاهرى كأشد ما يمكن أن يكون لإنسان مصرى قاهرى، يحس كما يحس أبناء الأحياء الوطنية، ويشعر كما يشعرون، ويحكم كما يحكمون، لولا أن ثقافته ترتفع به إلى هذه الطبقة الممتازة التى تحسن الحكم على الأشياء، وهو على كل حال قاهرى الحس، قاهرى الشعور، قاهرى الذوق، وما أراه يجد مشقة كبيرة فى أن يتحدث إلى أشد الطبقات فى الأحياء الوطنية تواضعا» ويرى عميد الأدب العربى، أن الخصلة الثانية فى البشرى أنه كان بغداديا كأشد ما يكون الأديب بغداديا، لأنه عاشر أبوالفرج الأصفهانى وأصحابه فأطال عشرتهم، والخصلة الثالثة هى احتكاكه بالحضارة الغربية، ولهذا كان أدبه مرضيا لكل الطبقات، «إذا قرأه الأزهريون أعجبوا به لأن فيه شيئا من الأزهر، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية أعجبوا به لأن فيه روحا من أوروبا، وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من أولئك ولا من هؤلاء، أعجبوا به لأن فيه روحا من مصر». العودة إلى قراءة أمثال البشرى هذه الأيام ممتعة، ليس بسبب غياب البديل، ولكن بسبب الضيق الذى يوحى لك بأن الأكسجين سرق من الجو، لأن هؤلاء هم عناقيد النور كما أسماهم خيرى شلبى، فى 1923 كتب الشيخ عبدالعزيز فى مذكراته: «لست أدرى لعمرى فيما أنا الآن! تالله ماأرانى فى شيء أبدا، لأننى لا أشعر بأننى مجتمع الشمل بهذا (الآن)!، ولا أرانى شعرت بهذا قط طوال الحياة!، اطلعت على ساعة من ساع الزمن إلا رأيتنى مشغولا عنها بانحدار للتى تليها... فأنا من يوم طالعت هذه الدنيا لا أجدن إلا على سفر دائم لا لبثة فيه ولا هوادة، ولا مناخ ولا راحة ولا لزاد: سير فى النهار مغز وسرى فى الليل حثيث».