الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الناس والحرب».. يوميات العبور «1»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى الثانية عشرة منتصف ليلة 6 أكتوبر أيقظنى جندى الخدمة ليخبرنى بأن قائد ثان الكتيبة المقدم خليل زايد وصل مستقلًا «لورى» وينتظرك، دهشت واتجهت له يتبعنى النقيب حسن؛ كانت الدهشة بأن يأتى لورى إلى جزيرة البلاح. فلا معدات ميكانيكية بالجزيرة، لأنها تحتاج معدية تعبر القناة وتحمل تلك المعدات الثقيلة، كما أن تضاريس الجزيرة غير صالحة لسير المعدات؛ اتجهت إليه حيث قابلنى قائد ثانى الكتيبة باش الوجه على غير عادته، وأخبرني: أسامة قوارب وحدتك موجودة باللوري؛ أرجو إحضار الجنود لإنزالها على أنها بطاطين حتى لا تخرج الأصوات ويتلقفها العدو ويعلمون بما ننوى أن نفعله؛ اضطربت قليلًا فقد صدق حدسى وتنبؤى.. قوارب يعنى حرب.
هكذا علم الضابط أسامة على الصادق الذى تجرع هزيمة يونيو 1967، وخاض معارك حرب الاستنزاف، وظل على الجبهة ينتظر قرار الثأر بموعد يوم الكرامة، اليوم الذى سيتمكن فيه من رد الاعتبار لرفاقه الذين استشهدوا دون أن يطلقوا رصاصة واحدة فى النكسة، ولإصابته من العدو بطلق نارى فى كف يده اليمنى.
الصادق حصل على نوط جرحى الحرب ونوط الجمهورية من الرئيس السادات بسبب بطولاته فى الحرب ضد العدو الصهيونى وإصابته مرة أخرى فى حرب 1973، أصدر الضابط المقاتل عام 2007 كتاب «الناس والحرب»ليسجل فيه ذكراياته ويومياته عن الحروب التى شارك فيها، بدءًا من النكسة وصولًا إلى «العبور».
ويقول الصادق فى كتابه: «إذا كان من عادة من يكتبون القصص والروايات المستوحاة من الوقائع أن يكتبوا فى المقدمة أن أى تشابه بين أحداث هذه القصة وبين أحداث وشخصيات موجودة فى الواقع هو مجرد صدفة، فإننى هنا أقول العكس تمامًا فكل الأسماء والأحداث والأماكن حقيقية لواقع سمعته ورأيته وعشته وتألمت منه وعانيت الكثير، ولم يتدخل خيالى فى أى من تفصيلاته».
وبالعودة إلى ذكريات ليلة العبور يضيف الصادق فى كتاب «الحرب والناس»: فى العادة تحصل كل سرية مشاة على عشرة قوارب للعبور على موجة واحدة «أى عبور دفعة واحدة»، أما بالنسبة لى فكان العدد ٢٢ قاربًا للعبور على ثلاث موجات كل موجة ٢٢ قاربا أى أن عدد القوارب التى ستعبر فى منطقتى (٦٦ قاربًا) وقد انضم إلينا منذ عدة أيام مائة جندى احتياط مهمتهم حمل الذخيرة لموقعنا المتقدم إلى مسافة الموقع المختار الذى سوف احتله مع جنودى شرق القناة وعلى مسافة ستة كيلومترات. 
ويتابع: لقد أعد المهندسون العسكريون فى السابق منذ عدة أشهر أماكن إيواء مغطاة تحت الأرض لـ٢٢ قاربًا فى هذا الموقع، توجه الجنود بالقوارب إلى تلك الأماكن؛ وسلمنى قائد ثانى الكتيبة تعليمات قائد الجيش الثانى اللواء سعد مأمون.. قرأتها وشعرت بأن خلفنا رجالًا ساهرين يعملون ويفكرون فى كل شيء.
وعن مشاعره فى تلك الليلة يقول: لم يغمض لى جفن فغدا سنعبر؛ غدًا اليوم الموعود، لقد كنت أفكر منذ انتقلنا إلى جبهة القتال وأنا أنظر إلى الجهة الأخرى من صحراء سيناء متمنيًا من الله أن يعطينى العمر والقوة وأن يأتى يوم كى أعبر إلى الشرق وألقى الشهادة هناك، كانت تلك الأمنية تراودنى وأقول لنفسى هل سيأتى هذا اليوم؟ كنت أعتقد أننى وعددًا كبيرًا نفكر فى هذا، ولكننى ويا للعجب قد اكتشفت أن هذه رغبة الجميع.
تلقى الصادق ورفاقه فتوى شيخ الأزهر بحتمية إفطار الجميع وإن من يخالف ذلك يكون آثمًا، كان ذلك فى حدود السادسة صباحًا، «طفت على الجنود لإقناعهم بالإفطار وكأن جميع الجنود قد أصابتهم قوة الإيمان رافضين هذا الأمر إذا كان لهم هذا الحق، شربت الماء أمامهم موضحًا أن الانتصار أهم من الصوم، لأن الانتصار سيكون انتصارًا لجميع المسلمين على أعداء الله والإسلام كما أنه يمكننا أن نستعيض هذه الأيام بعد النصر بإذن الله»، ويتذكر، قائلًا: ما زلت أتابع إفطار جنودى واستمع إلى الراديو منذ الصباح وأغنية أم كلثوم الجميلة «يا صباح الخير يا لى معانا»، وأنا مازلت أطوف عليهم جميعًا وعلى باقى الوحدات الملحقة على قواتى.
ويستعيد الصادق تفاصيل اليوم العظيم، ويقول: وصل عددنا إلى ٣١٠ جنود وصف ووصل عدد الضباط إلى ١٥ ضابطًا، تعلن ساعة جامعة القاهرة تمام الثامنة من صباح هذا اليوم السادس من أكتوبر العاشر من رمضان؛ فى هذا اليوم زاد عدد دقات الساعة عن المعتاد كأنما حدث خلل بها؛ ضبطت ساعتى والتى كان بها تأخير ثلاث دقائق، طفت على الجميع ليضبطوا ساعاتهم وبعد أن تيقنت من ذلك وصلتنى رسالة مكتوبة من قيادة الفرقة بأنه فى تمام العاشرة نبدأ بنفخ القوارب، قارب بعد الآخر وعلى الجنود الآخرين التظاهر بالضحك والتحدث لعمل شوشرة على أصوات أدوات نفخ القوارب، فعلنا هذا؛ قاربًا بعد آخر حتى أتممنا الـ٢٢ قاربًا.
وفى تمام الثانية عشرة والنصف حضر سائق قائد الكتيبة ليخبر الصادق بأن القائد يريده فى مركز الملاحظة فرافقه الصادق وعبر معه القناة الخلفية «تفريعة البلاح»، ويروى مشواره، قائلًا: «قطعنا أكثر من كيلو لأجد قائد الكتيبة فى وضع الاستعداد فى مركز الملاحظة مبتسمًا ومرتفع الروح المعنوية وأسعدنى هذا وقد يكون هذا الإحساس قد وصل إلىّ أيضا لأجد قائدى منشرح الصدر غير هياب للموقف، صافحنى سعيدًا، قائلًا: هذا يومك يا بطل أنت ورجالك الشجعان، ناولنى مظروفًا صغيرًا، وطلب منى قراءته بعد أن أصل إلى موقعى فى حضور الضباط وضباط الصف وأبلغهم بمحتواه، احتضننى مودعًا وتبعه كل ضباط القيادة من رئيس العمليات إلى ضابط الإشارة والأمن، طلب منى إبلاغ تحيته إلى الجميع؛ عاد بى السائق وانتظر معى حتى حضر القارب ليعيدنى إلى الجزيرة، وهنا عانقنى السائق داعيا الله أن يوفقنى.
عاد الصادق إلى جنوده بالتكليف الذى سيعيد كرامتهم وعزتهم، عاد بالحلم الذى كان ينتظره جنود الكتيبة بل مصر كلها، ويصف تلك اللحظة قائلًا: وقفت وسط جنودى وضباطى بعد عودتى من لقاء القائد وهم يترقبون منى شيئًا جديدًا، البعض بدأت تخور قواه فقد أصبحت الأحلام حقيقة، وأصبح من يفتعل البطولات يجدها قريبة منه قرابة أنفاسنا اللاهثة وهذا هو المحك الرئيسى قادمًا، وليس لك بديل إما النصر أو الشهادة، قرأت كلمات قائدى والتى لا تخرج عن سطرين بأننا جاهزون ومستعدون لمعركتنا المقبلة وموعد عبورنا الساعة (1405) وهذا هو التوقيت العسكرى، أى الثانية وخمس دقائق بعد الظهر، وهذا التوقيت سيكون لحظة عبور القاذفات المصرية من سلاحنا الجوى.
ونستكمل يوميات العبور فى المقال القادم