السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

آليات ممارسة العنف الرمزي «اللغة» -2

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اللغة هي العلاقة الأكثر شيوعًا وسيادة وعالمية فى المجتمع الإنسانى، فهى من الأنشطة المؤثرة فى المعرفة البشرية وفى حياتنا ككل، فنحن قد لا نرى فى أى مجتمع من المجتمعات الإنسانية أنظمة صورية من الأرقام أو من علم الحساب، وقد لا نرى فيه أية اهتمامات بالفنون أو الموسيقى أو أى علم من العلوم؛ ولكننا لا بد أن نرى فيه «لغة» ما يتفاهم بها الناس؛ لذلك فاللغة نسق من الإشارات والرموز، يُشكل هذا النسق أداةً فى المعرفة وفى حفظ مردودات الثقافة والحياة الاجتماعية للإنسان، فاللغة نظامٌ يشترك فيه الناس عن طريق الاتصال الرمزى.
وعلى هذا الأساس، تُعد اللغة الأداة الفاعلة فى تشكيل العنف الرمزى وتشكيل البناء الاجتماعى، وإعادة إنتاج علاقات القوة والطبقية، وتمثل اللغة قدرةً على تكوين المعطى الفعلى عن طريق العبارات اللفظية، بوصفها الأداة القادرة على الإقناع، وعلى بناء رؤية محددة عن العالم وتشكيله ذهنيًا، وهى تمتلك – وفقًا لهذا التصور – قوة سحرية تعادل القوى الطبيعية والاقتصادية.
ويُعد كتاب «بورديو» «اللغة والسلطة الرمزية» واحدًا من أهم كتبه التى عالجت مفهوم «العنف الرمزى»؛ حيث ناقش مختلف أشكال السيطرة التى يمارسها النموذج اللسانى على العلوم الاجتماعية، وقد رأى ضرورة اختزال الفعل الاجتماعى إلى فعل يرتبط بالحوار والتواصل؛ أى اللغة والثقافة، وفى هذا الإطار أكد «بورديو» أن هناك قانونًا فى علم اللغة الاجتماعى يثبت أن اللغة المستعملة فى موقف معين لا تعتمد على قدرة المتكلم فحسب، بل أيضًا على ما يسميه «بالسوق اللغوية»، فالخطاب الذى يُنتَج هو محصلةٌ لقدرة المتكلم والسوق التى يدور فيها خطابه؛ كما يعتمد الخطاب – فى جانب منه – على شروط الاستقبال؛ بمعنى أن كل موقف لغوى يعمل بوصفه سوقًا تجرى فيها مبادلة أشياء ما، وتلك الأشياء هى «كلمات» بالتأكيد، لكن هذه الكلمات لم تُوضع لكى تُفهم فحسب، بل تكشف أيضًا عن علاقة اقتصادية؛ حيث تُقَدَّرُ قيمة المتكلِّم من خلال بعض التساؤلات: هل تحدث بطريقة حسنة أم سيئة؟ هل يمكن الموافقة على كلامه أم لا؟
وفى هذا الصدد ظهر ما يسمى بـ «رأس المال اللغوى»، الذى يعنى تحكم صاحب رأس المال فى المجتمع وفرض سيطرته عليه، وقدرته على استخلاص فائض القيمة النوعى، وينطبق هذا على من يمتلك الرأسمال اللغوى الأجنبى فى الدول العربية، فإنه يستطيع أن يحظى بمكانة ثقافية واقتصادية كبرى فى المجتمع؛ لذلك فإن أى عملية تفاعل، وأى عملية تواصل لغوى، تتم بين شخصين أو صديقين، هى عملية من عمليات التواصل اللغوى، وهى أيضًا من أنواع الأسواق الصغرى التى تبقى دومًا تحت رحمة سلطة المجتمع.
إذن، تمثل اللغة سلطة عظمى، لها قواعد بلاغية معينة، تميز جميع أشكال الخطاب الذى يصدر عن المؤسسة؛ أى الكلام الرسمى الذى ينطق به من سمح له أن يكون ناطقًا بلسانه؛ ومن عهدت إليه السلطة بالتكلم علانية؛ فمثلًا تتحدد السلطة اللغوية فى الخصائص التى تميز أسلوب رجال الدين، والأساتذة، وجميع المؤسسات عمومًا، كالتقليد والتكرار وترديد القوالب الجاهزة، وتتميز هذه الخصائص بسمات طبعها المجتمع؛ بمعنى أن الخطاب المُوَجَّهَ من هذه المؤسسات هو خطابٌ سلطوى لا يتم بيُسرٍ وسهولة إلا ضمن آليات اجتماعية قادرة على السيطرة.