الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحداثة الغربية ومساجلات الشياب والشبان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تعبر تعليقات الشبيبة على تراث الفلاسفة القدماء إلا عن اندفاعهم المصاحب للعجلة فى الحكم والتوقع والاستنتاج، فقط ظن معظم الشباب المعلقين على مساجلات (الشياب والشباب) أن خلاصهم وضالتهم سوف يجدونها فى ثورات الفكر الأوروبى الحديث، غير أن الواقعات تشهد بأن جل الثورات الفكرية الأوروبية ومعظم الرؤى العقلية قد انطلقت من كتابات الشياب، بيد أن نقد الثوابت ونبذ الواقع والنظرة التشاؤمية جاءت على ألسنة الشباب.
فقد ذهب كوبرنيقوس ( 1473 – 1543 ) إلى نقض النظرية الأرسطية البطلمية فى الفلك – تلك التى خلاصتها أن الأرض هى مركز الكون - فى أخريات الستينيات من عمره، بينما اجترأ مارتن لوثر ( 1483 – 1546 ) على الكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها فى اعتراضاته التسعة والتسعين التى علقها على جدران الكنيسة عام 1517، وهو فى ريعان الشباب. وعلى مقربة من ذلك نجد الفيلسوف الفرنسى مونتانى (1533 – 1592) يقود ثورة عارمة من الشك فى كل الموروث حتى أصبحت عقيدته هى الارتياب، الأمر الذى قاده إلى التشاؤم حتى ألقى بنفسه فى أتون اليأس، وذلك فى أخريات سنين شبابه. 
أما فرنسيس بيكون (1561 - 1626) صاحب المنهج الاستقرائى التجريبى والإرهاصات الأولى للفلسفة العلمية فى العصر الحديث، قد نشر كتابه (الاورجانون الجديد) عام 1620، أى فى سن الشياب، أى أن عصر الحداثة الذى يطالب به الشباب قد جاء به الشيوخ. وعلى هذه الشاكلة نجد رينيه ديكارت (1596 - 1650) - أبو الفلسفة الحديثة - ينشر كتابه (مقال فى المنهج ) عام 1637، وهو فى الأربعينات من عمره، وجاء مونتسكيو (1689 - 1755) بكتابه الأشهر (روح القوانين أو الشرائع) عام 1748، وهو على مشارف العقد السابع من عمره، كما أن فولتير (1694 - 1778)، لم يصرح بكتاباته النقدية تجاه الثوابت الاجتماعية والسياسية والدينية إلا فى بداية الأربعينيات من عمره، فى حين عاد جان جاك روسو (1712 – 1778) للنهج الوعظى فى تربية النشء وإصلاح المجتمع وتربية الرأى العام وهو فى الخمسين من عمره، وذلك فى كتابه (اميل والتربية) الذى نشره عام 1762. وعلى النقيض من ذلك نجد الفيلسوف الألمانى هولباخ (1723 - 1789) رائد جل الاتجاهات الإلحادية الحديثة قد دفع بكتاباته الثورية الناقدة للموروث والكتب المقدسة فى منتصف الأربعينات من عمره. 
وذلك عقب ظهور كتابه (فحص مبادئ الدين المسيحى) و(فى قوانين العالم المادى والعالم المعنوى).
ونخلص من ذلك الاستقراء إلى أن الفكر الحداثى الأوروبى لم يخطط الشباب لانساقه ولم تكن ثوراته من صنع الشباب أو من تخطيطهم كما اعتقد البعض منهم، أضف إلى ذلك أن منهج الوعظ والاستنارة عن طريق التربية الخلقية الذى تهكم على دروبه شبيبتنا لم يغب عن المسرح الحداثي، بل كان موجودًا وبقوة مجاورًا للمنهج النقدى فى كتابات الفلاسفة الاجتماعيين وعلماء النفس منذ أخريات القرن الثامن عشر حتى الآن. 
أما الثورات الفجائية والحركات الراديكالية الإطاحية فلم تثمر شيئًا، ولم تأت بأكلها الذى توهمه معشر الشباب، فلم يتطور العقل الأوروبى الحديث إلا بكتابات بيكون وديكارت ومونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم من الشيوخ، وسوف نتناول جانبًا من مواقفهم من قضية تواصل الشباب مع الشياب وكيفية إعداد النشء للنهضة والتنوير وحمل راية الإصلاح فى مقالات تالية.
فها هو فرنسيس بيكون يصرح فى مقال له بعنوان «عن الشباب والشيخوخة « (بأن الشباب أقدر على الابتكار والتطبيق منه للتخطيط والنصح والاعتدال فى الحكم والاتيان بالعظات، وذلك نظرًا لقلة خبرة الشبان ودرايتهم، وهم كذلك أنسب للعمل والإنتاج منهم إلى المشورة، ومن ثم يجب الدفع بهم صوب التحديث والتجديد أكثر من الزج بهم فى ميدان التحقيق وتأمل الموروث لتحليله والوقوف على أسراره والكشف عن ملابساته ومقاصده، وذلك نظرًا لروح الشبيبه الثورية الناقدة المتمردة دومًا على المألوف، فالشباب بطبيعتهم أقرب إلى الحركة والنزوع منهم إلى التأمل والاناة فى النقد والتعقل فى إصدار القرارات، غير عابئين بتخير الوسائل، وإدراك المألات، فهمهم الأكبر ينصب على تحقيق الغايات معولين فى ذلك على رءوس أقلام حصلوها من أبواب المعرفة والعلم. 
أما الشياب فإنهم يعترضون أكثر مما يقررون، ويتشاورون أطول من غيرهم خوفًا من المغامرة والمقامرة والمخاطرة، كما أنك تلمح فى حديثهم بكاءً على الماضى والندم على ما فات، الأمر الذى يعكس تقاعسهم عن المضى فى الطرق المجهولة، لذا تجدهم يقنعون بالمتوسط من النجاح). 
ويختتم فرنسيس بيكون حديثه (بأن الخير فى الجمع بين الشياب والشباب فى شتى الميادين، فنواقض كل من هذين الفريقين تكمله وتعالجه طبائع الفريق الآخر، ثورة عاقلة، طموح بلا اندفاع، إبداع وليس شطط ومجون، تجديد دون تبديد، سعى للتغيير، وأناة وتريث فى الفحص والتبرير، ووعى بالمآلات، وجدولة للغايات) وليت شبابنا ينصت ويتعلم. 
وللحديث بقية.....