الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

هيكل وكتابه "أكتوبر 73 الحرب والسلاح"

صورة من حرب أكتوبر
صورة من حرب أكتوبر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
السادات رأى قرار الحرب قدرًا لا يمكن الفرار منه
عبور الجيش المصرى قناة السويس «معجزة بشرية» لم يسبق تحقيقها
الرئيس السادات اتصل بى فى اليوم الأول للمعركة: «الولاد ركبوا خط بارليف خلاص»!
نتائج المعركة وسقوط آلاف القتلى والأسرى الإسرائيليين ينفى مزاعم البعض بأن الحرب كانت «مسرحية»

عندما تحارب الأمم فإنها لا تتحمل وطأة هذه الحرب إلا لإقرار السلام وفرضه على أعدائها الذين بادروها بالعدوان.. يدفع الساعون إلى السلام، وإلى الاستقلال وتحرير الأرض ثمنًا باهظًا.. تجسد هذا فى الثمن الباهظ والبلاء الفادح الذى تحملته مصر بمنتهى المرارة فى هزيمة يونيو 67.
سنوات سوداء لم تشهد مصر أصعب منها فى تاريخها الحديث كان الضباب حالكًا والمعنويات محطمة والأحلام الكبرى بوطن حر وناهض بددتها غيوم الخامس من يوينو 67 حتى جاءت حرب الاستنزاف التى استطاع المقاتل المصرى من خلالها أن يستعيد درعه وسيفه إلى أن جاءت الساعة الحاسمة لاستعادة الأرض والكرامة المهدورة فى صحراء سيناء.. ساعة الصفر من يوم السادس من أكتوبر عام 73.
هذه المعركة التى كتب عنها كثيرون وأفرد لها البعض مئات بل آلاف الصفحات لكن يظل الأستاذ محمد حسنين هيكل هو الأقرب إلى القاريء المصرى والعربى والأجنبى حينما يريد أن يعرف ماذا جرى على أرض المعركة، وما الذى دار داخل المكاتب والقاعات المغلقة.
الأستاذ الذى كان قريبا من دوائر صنع القرار، وكان شاهدًا على الأحداث بل تستطيع أن تعتبره مشاركا فى صنع بعض القرارات المهمة والخطيرة لذا تظل كتبه التى قدمها للمكتبة العربية منها: (الانفجار، ملفات السويس، سنوات الغليان) شاهدة على عصر كامل وهى الأقرب إلى الحقيقة بشكل من الأشكال.
ويأتى كتاب «أكتوبر٧٣.. السلاح والسياسة» استكمالا لهذه الشهادات الحية عن سنوات الصراع وبانوراما الحرب والسلام.. الكتاب الصادر عن دار الشروق يضم ٤٢ فصلا موزعين على ثلاثة أجزاء، وتبلغ عدد صفحاته ١١٨٣ صفحة، هذا بخلاف ما تضمنه بين دفتيه من وثائق بالغة الأهمية.
كان الأستاذ مغرمًا بالحصول على الوثائق، ويرى أنه قد يحتاج إليها فى يوم من الأيام عندما يريد أن يكتب عن بعض الوقائع والأحداث الخطيرة والفارقة فى مسار هذا الوطن.
يحكى الأستاذ فى مقدمة الكتاب أنه حصل على بعض هذه الوثائق من الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى أعقاب الواقعة الشهيرة والمعروفة بمراكز القوى، وبعضها عثر عليها بطريقة أو بأخرى وهى عبارة عن مراسلات دارت بين الرئيس السادات ووزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هنرى كيسنجر خلال عام كامل، وهو عام ٧٣ الذى شهد حرب أكتوبر. كانت هذه الوثائق سببًا لغضب الرئيس الراحل أنور السادات من الأستاذ عندما علم أثناء زيارته للولايات المتحدة فى سبتمبرعام ١٩٧٥ أن هيكل حصل عليها.
يخلو الكتاب من الآراء التى تخضع أحيانا لهوى مؤلفه الأمر الذى يعطى الكتاب قدرا مضاعفا من المصداقية والتقدير، وحرص الأستاذ كما قال فى مقدمته الطويلة على تناول فصول الكتاب من خلال المعلومات لا الآراء: «قد يلاحظ قارئ هذا الكتاب أن المعلومات فيه أكثر من الآراء».

فى الجزء الثالث من الكتاب والذى جاء تحت عنوان: «على طريق الحرب» يبدأ الفصل الأول منه بالاستعداد للعاصفة التى لاحت بوادرها فى صيف ١٩٧٣ عندما بدا أن خيار الحرب وكأنه قدر مقدور لا يملك أحد منه مهربا خاصة بعدما أوشك الشعب المصرى على الانفجار جراء تحمله ٦ سنوات - من صيف يونيو ٦٧ وحتى صيف ٧٣ - شهدت ضغوطا فائقة الصعوبة بدءا من مرارة الهزيمة ووقوع جزء من الأرض تحت الاحتلال الإسرائيلى ومرورا بالتضحيات المطلوبة من أجل المعركة، وقد وصلت فى بعض السنوات إلى ٢٠٪ من الدخل القومى بالإضافة إلى تعبئة مليون شاب ورجل على خطوط القتال لمدة خمس سنوات.
كانت الضغوط نفسها قد اتجهت إلى النواة العسكرية بل كانت بدرجة أكثر سخونة والشاهد أن هذا الجيش الذى عاش سنة ١٩٦٧ محنة لم يكن له دخل فى صنعها ـ ما لبث أن استعاد تماسكه بجهد مستميت.
ومن هنا كان القرار السياسى بالحرب على وشك أن يتخذ وكانت هناك دوافع موضوعية أملته إملاء كما يقول الأستاذ: أولا فشل كل محاولات الحل السلمي. ثانيا: وصول الجبهة الداخلية إلى اللحظة الحرجة. ثالثا: بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه من الاستعداد العسكري. رابعا: احتمال تآكل التأييد العربى والدولى لمصر ما لم تثبت أنها قادرة على الحركة.
لم تكن هذه الأسباب أو الدوافع الموضوعية وحدها هى التى أملت على القيادة السياسية قرار الحرب بل كانت هناك أسباب أخرى نورد هنا بعضها كما جاء فى الكتاب: «لقد كانت هناك دوافع إنسانية يقتضى الأمر وضعها فى الميزان لكى تكون الصورة دقيقة فى تعبيرها عن المشهد الذى ترسمه، مع الأخذ فى الاعتبار أنه لا توجد صورة كاملة. فكل صورة إنسانية حركة تاريخ، وكل تاريخ نسبى لأنه إنساني:
١ـ إن الرئيس السادات لم يكن يريد الحرب، وقد كان شديد التحسب لمخاطرها العسكرية، ومن ثم السياسية، على رئاسته. فهذه الرئاسة آلت إليه فى ظرف معين كان أشبه ما يكون بقصة فيلم سينمائى لا تستقيم روايته إلا بسلسلة من المصادفات تكاد تخرجه عن أى نوع من أنواع الواقعية المنطقية. وقد كان شديد الحساسية لهذه النقطة. وقد عبر عنها أكثر من مرة بقوله «إذا حدث شيء فلن يخرج الشعب مطالبا بعودتى مرة أخرى للرئاسة كما حدث مع جمال»!
٢ - إن التكوين العلمى والعملى للرئيس السادات لم يكن مما يتلاءم مع فكرة الحرب فدراسته فى الكلية الحربية كانت ضمن دفعة انتظمت صفوفها أقل من سنة، ثم تخرجت لظروف قيام الحرب العالمية الثانية، وكان التصور لدى القائمين على التعليم العسكرى وقتها أن تجربة العمل الفعلى فى معسكرات سوف تستكمل بالخبرة ما فات بالتعليم ولكن السياسة استهوت الرئيس السادات فى مطلع شبابه، وأخذته على طريق طويل مليء بالمنحنيات، انتهى إلى مقعد خلفى فى اللجنة التأسيسية لحركة الضباط الأحرار.
٣ـ إن الجانب الذى عرفه وأغرم به فى الحياة العسكرية هو الجانب الاحتفالي، وفى وسط زحام المعركة فقد كان مهتما بالزى العسكرى الذى يرتديه كقائد أعلى للقوات المسلحة. بل لقد كانت الصورة التى التقطت له فى القيادة، ومع القادة، وأمام الخرائط لكى تظهره القائد الأعلى الممارس ـ صورة جرى التقاطها بعد انتهاء العمليات وأعيد تمثيلها.
٤ـ لقد كان فى قرار الحرب متأثرًا ـ إلى جانب الدوافع التى أملت قراره ـ بعاملين: الأول هو إدراكه كوطنى أنه من الضرورى تحمل مسئولية تحرير الأرض. والثانى هو إدراكه كمسئول أنه لم يعد أمامه بعد كل ما حاوله مفر من القتال، وقد عبر عن ذلك مرة بقوله: إن جمال ذهب وتركنى مكتوف القدمين على شريط سكة حديد، وإذا لم أزحف على بطنى بعيدا عن القضبان فإن القطار سوف يهرس لحمى وعظمي.
٥ـ إنه كان بين الذين اقتربوا من دائرته عدد من مجموعة القوة الجديدة الناشئة فى العالم العربي، والتى أقامت نفوذها على قواعد صلاتها بشركات البترول، وشركات السلاح، وإدارات المخابرات الأجنبية، وكان هؤلاء، ومعظمهم من تجار الاتفاقيات والترتيبات الخفية، وصفقات السلاح وعمولاتها، وأجواء الاتصالات المشبوهة جميعا من أنصار بقاء حالة اللاسلم واللاحرب، فهى الكفيلة دون غيرها باستمرار عقد الصفقات، هذا فى حين أن الحرب الفعلية ومهما كانت نتيجتها، سوف تقلل حجم السوق، وحساب الأرباح، ودرجة النفوذ.
يقول الأستاذ إنه بالرغم من كل ذلك فإن هناك حقيقة لابد من احترامها وهى أن الرجل الذى كانت على كتفيه مسئولية القرار وهو أنور السادات امتلك شجاعة اتخاذه. وقد اتخذه عارفا أن تلك مقاديره وأن قرار الحرب وإن لم يكن اختياره الأول فهو قراره الأخير.

يؤكد الأستاذ أن شهر سبتمبر من عام ١٩٧٢ كان شهر الذروة فى رئاسة أنور السادات. ويرد على بعض الذين أشاعوا أن حرب أكتوبر لم تكن سوى خدعة أو تمثيلية: «ومن سوء الحظ أن بعض الذين كانوا يعرفون رغبة الرئيس السادات الملحة فى الوصول إلى حل سلمي، وبينهم من رأوا ولمسوا عن قرب ظواهر إقدامه ثم إحجامه عن قرار الحرب ـ أخطأوا فى تفسير الوقائع، وراحوا يخلطون بين التاريخ والمؤامرة فزعموا لأنفسهم وللناس أن قرار الحرب مسرحية متفق عليها. ومثل ذلك على وجه القطع ليس مجرد خطأ فى التفسير، وإنما هو أيضا سوء نية فى التأويل يستسهل نظرية المؤامرة ليفسر بها المستعصى على الفهم بالتحليل.
والحقيقة أن قرار الرئيس السادات بالحرب كان قرارًا حقيقيًا وأصيلًا، والغريب أن يخطر ببال أحد أن عمليات قتالا بالنار بين جيوش جرارة فى البر والبحر والجو يمكن أن تكون مؤامرة محبوكة.
وكان مايو سنة ١٩٧٣ هو الاختيار الأول للقيادة المصرية السورية المشتركة قد تأجل هو الآخر برجاء من الملك فيصل يطلب فيه زيادة الاستعداد.
أما الاختيار الثانى للقيادة المصرية السورية المشتركة فكان الأسبوع الأول من أكتوبر وهو الموعد الذى جاء ليفرض نفسه على الجميع.
وفى يوم ٢ أكتوبر والعد التنازلى يقترب لحظة بلحظة من اليوم المشهود طار الفريق أحمد اسماعيل إلى دمشق للاتفاق على ساعة الصفر وهى المسألة الوحيدة المعلقة والمؤجلة للحسم حتى آخر لحظة وكانت موضع خلاف بين الجبهتين.
الجيش السورى يريد أن يبدأ مع أول ضوء لأن الشمس سوف تكون فى وجه مدرعات العدو مع اندفاعة المدرعات السورية إلى هضبة الجولان.
والجيش المصرى كان يريد أن يبدأ مع آخر ضوء ليستغل القمر الصاعد مع تقدم الليل ـ ١٠ رمضان ـ فى إقامة جسور العبور على قناة السويس. وبعدها قتال ليلى يتحرك بسرعة لتطويق النقط الحصينة على خط بارليف.
وانتهت المناقشات فى حضور الرئيس الأسد إلى موعد آخر لا يتوقع أحد فيه أن تبدأ العمليات فى شهر الصوم وفى يوم عيد الغفران فى إسرائيل وهو الساعة الثانية بعد الظهر فى وضح النهار وأثناء الصوم وفى غمرة صلوات يوم الغفران.
بعد تحديد اليوم وساعة الصفر كان لدى السادات مخاوف من أن يصل للقيادة الإسرائيلية أى معلومة تفيد باستعداد مصر للحرب وأنها ستقوم بالهجوم على الجيش الإسرائيلى فى سيناء لتحرير الأرض يوم السادس من أكتوبر.
وفى مساء الجمعة الموافق ٥ أكتوبر ترأس السادات اجتماعًا أخيرًا للقيادة العسكرية فى مقر العمليات، وهو المركز رقم (١٠) على طريق القاهرة ـ السويس، وهو مركز كان وجوده فى ذلك الوقت سرًا من الأسرار.
وكان الفريق الشاذلى قد قام صباح نفس اليوم بزيارة لمواقع الجيش فى الجبهة وقد سجل صورة مشجعة، وكان أهم ما فيها بالنسبة للرئيس السادات: «أنه لا يبدو من تصرفات العدو أن لديه علما باحتمال حدوث شيء!» وكان الرئيس السادات ما زال يظهر استغرابه لكن استغرابه هذه المرة لم يكن مشوبا بقلق وإنما برضا!
وقام الرئيس السادات بإخطار القيادة العسكرية بـ«المضى على خيرة الله». ثم خرج الرئيس السادات من مبنى القيادة متوجها إلى قصر الطاهرة الذى اختاره مقرا لقيادته فى حرب أكتوبر.
يقول الأستاذ: فى تلك الليلة كان النوم عصيًا على الرئيس السادات. وقد تناول مهدئا حتى يستطيع أن يغفو ولو لساعات لأن «أمامنا فى الغد يوم رهيب... رهيب».
فيما بين الساعة الثامنة وحتى الساعة العاشرة إلا ربعا من صباح يوم السبت ٦ أكتوبر كان الرئيس السادات فى قصر الطاهرة وليس فى رأسه إلا سؤال واحد: هل توجه إسرائيل ضربة إجهاض بالطيران ضد الجبهة المصرية قبل الموعد المحدد لبدء الهجوم وبقصد تشتيت وبعثرة صفوفه؟
وفى نفس اليوم تقريبا وفى بيت رئيسة وزراء إسرائيل كانت جولدا مائير ومعها مجموعة من أعضاء مجلس الوزراء المصغر يناقشون نفس السؤال تمامًا.
كان السادات مهموما بالسؤال وكانت جولدا مائير مهمومة بالجواب ومن الغريب أن ردها كان بـ: «لا» متوافقا بالضبط مع ما كان أنور السادات يتمناه وإن اختلفت الأسباب لدى كل منهما.

فى الفصل الثالث وتحت عنوان «معجزة البشر»، يقول الأستاذ هيكل: فى الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم السبت ٦ أكتوبر وصل الرئيس أنور السادات إلى المركز رقم (١٠) مقر القيادة الرئيسى للعمليات. وقد توجه فور وصوله ومعه الفريق أحمد اسماعيل إلى مكتب القائد العام، وهناك قضى بضع دقائق ألقى فيها نظرة على خرائط التخطيط واهتم بالسؤال عن مواقع القطع البحرية التى تحركت قبلها بأيام فى البحر الأحمر وفى البحر الأبيض ثم سأل عن أعداد قوات الصاعقة التى تسللت إلى سيناء بالأمس لإبطال عمل مواسير اللهب السائل الذى كان معروفا أنه بند رئيسى فى الخطة الإسرائيلية لعرقلة أى عبور.
لم تكن الإجابة التى تلقاها الرئيس السادات قاطعة. فالثابت لدى القائد العام أن قوات الصاعقة دخلت لمهامها ولكن نجاحها فى تحقيق مهمتها لن يتأكد خبره إلا عندما يبدأ العبور فعلًا.
وفى الساعة الثانية بعد الظهر كانت الأنظار فى القاعة كلها متجهة إلى الجزء الخاص بالقوات الجوية. وكانت الإشارات قد وصلت بأن قوات الضربة الجوية الأولى، وقوامها مائتا طائرة قد عبرت على ارتفاع منخفض فوق قناة السويس قاصدة إلى تنفيذ المهمة الأولى فى العملية. ثم بدأت الإشارات تترى بأن طائرات هذه القوة بلغت أهدافها وبدأت تنفيذ مهامها بنجاح فاق ما كان منتظرا، فقد تم ضرب مراكز قيادة ومواقع رادار ومناطق حشد وعقد مواصلات وقواعد جوية.
فى الساعة الثانية وعشر دقائق كانت الأنظار فى القاعة متجهة إلى الجزء الخاص بالمدفعية. وفى نفس اللحظة كانت فوهات ألفى مدفع من مختلف العيارات والطرز تضرب بكل قوتها بعيدا وراء خطوط العدو لقطع عمقه عن جبهته، وتدمير ما يمكن من منشآته المتقدمة، وتشتيت ما هو متجمع من حشوده. وتلا ذلك قصف ستمائة مدفع ركزت على مدى قصير بضرب منشآت وتحصينات خط بارليف.
وفى الساعة ٢،٢٥ بدأت قوارب المطاط تنزل فى القناة بجنودها تحت وابل من نيران العدو الذى بدأ يفيق من المفاجأة. ومع ذلك فإنه فى ظرف عدة دقائق كان على صفحة القناة ما يقرب من ستمائة قارب مطاطى فى كل واحد منها ثمانية مقاتلين، وقد راحت تشق طريقها إلى الضفاف الأخرى وسط عاصفة من النار.
وفى هذه اللحظة تأكد أن مجموعات الصاعقة التى دخلت بالأمس قد نجحت فى تعطيل عمل مواسير اللهب. وكان نجاحها فائقا إلى درجة أنه لم يظهر لأى واحدة منها أثر على الإطلاق فوق مياه القناة.
كان الرئيس السادات قد اطمأن بأكثر مما راوده فى أوسع أحلامه جموحا إلى أن هناك شيئا عظيما تم تحقيقه. وقد خطر بباله أنه يستطيع أن ينتقل الآن من مقر قيادته العسكرية، ويعود إلى قصر الطاهرة ليتابع من هناك آثار الساعات التى عاشها فى المركز رقم (١٠) على مصر وعلى العالم العربى وفى الدنيا الواسعة.
يقول الأستاذ: قبل أن يغادر الرئيس السادات مقر القيادة العليا، اتصل بـه وطلب إليه أن يلقاه الساعة الثامنة فى قصر الطاهرة. وفى حين كانت نبرة صوته فى مكالمة سابقة نبرة هادئة، فإن النبرة الآن كانت مجلجلة كأنها زغاريد فرحة.
وقد راح يكرر فى نفس واحد أكثر من ثلاث مرات: «الولاد ركبوا خط بارليف خلاص...»
وصل الرئيس السادات إلى قصر الطاهرة وفى الساعة الثامنة مساء وصل الأستاذ هيكل لموعده مع الرئيس وقد لاحظ عند دخوله إلى الصالون الذى كان يجلس فيه الرئيس السادات ويتلقى منه ما يختار من الاتصالات التليفونية أن هناك مجموعة من رجال التليفزيون والإذاعة بميكروفوناتهم وعدساتهم. وعندما دخل الأستاذ على الرئيس السادات كان باديا أن موجة من الفرح تتراقص بصالون القصر كله. وفى حين راح «هيكل» يسأل عن المزيد من التفصيلات فإن الرئيس السادات كان له مطلب عاجل، وهو إعداد كلمة قصيرة ولو من عشرة سطور تقول للناس ما معناه «أن حرب الساعات الست قد تحققت».
يصف الأستاذ هيكل الحالة التى كان عليها الرئيس الراحل محمد أنور السادات كلما وردته معلومة عن تقدم القوات على الجبهة قائلا: فى ليلة ٦ـ٧ أكتوبر كان أنور السادات فى لحظة فاصلة وفارقة من حياته شكلت على وجه القطع ـ مفترق طرق.
قبلها كان واحدا من زعماء العالم العربى مثل غيره كثيرين وبعدها أصبح نجما يلمع فى أفق عال وشاهق.
وقبلها كان حاكما بشرعية مستعارة من سلفه «جمال عبدالناصر» وبعدها فإنه أصبح يمتلك شرعية مستقلة يبدأ بها عصرا جديدا من حكمه.
وقبلها لم يكن فى تاريخ العرب الحديث انتصار عسكرى واضح وبعدها فإنه سجل فى تاريخ العرب نصرا عسكريا على مستوى لم يكن ينتظره أحد.
وقبلها كان رجلا تكررت وعوده واعتبرت كلها جوفاء وفارغة وبعدها فإنه استطاع أن يحقق ما وعد به، وزاد عليه.
وقبلها كان يتصرف وفى إحساسه أن جمال عبدالناصر كان رجلا أكبر منه والآن فقد داخله الإحساس بأنه أصبح أكبر من جمال عبدالناصر فهذا الذى تحقق على يديه اليوم ولا لـ «جمال عبدالناصر».
وقبلها وقبلها كثير وبعدها وبعدها كثير أيضا، وما قبل مختلف دواما عما بعد.
وكان ذلك كله ماثلا فى ذهنه تلك الليلة، وقد عبر عنه بالنشوة، وربما استطاع تحليل بعضه، وأحس بأثر البعض الآخر دون تحليل لكنه فى نهاية يوم طويل وشاق ومرهق يدخل إلى فراشه ليلا وقد أصبح على قمة العالم وقد كان مغربه ومشرقه مأخوذا بما حدث من انتصار عظيم بكل المقاييس.