الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

نصر أكتوبر.. انطلاقة فكرية لمواجهة «الخرافات» والجماعات التكفيرية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مع اندلاع حرب أكتوبر المجيدة، انطلق أرباب الفن المصرى بكل أشكاله فى محاولات لتخليد الانتصار العظيم، فسمع المواطنون المشتاقون لأية أخبار من الجبهة أغنيات مثل «بسم الله» و«عاش اللى قال» و«تعيشى يا ضحكة مصر» و«ابنك يقول لك يا بطل»؛ واعتاد المتفرجون فى كل عام مُشاهدة أفلام «العبور العظيم» و«الرصاصة لا تزال فى جيبي» و«بدور»؛ بينما جاء الكثير من الكتابات لتخليد بطولات وحكايات المصريين من الانكسار إلى الانتصار، مثل «حكايات الغريب» و«الحرب فى بر مصر»؛ كذلك أبدع التشكيليون الذين شاركوا فى الحرب فى رسم مشاهداتهم خلال المعارك.
وخلال الأعوام التى تعاقبت على ما اقترب من نصف قرن، تغيرت ملامح المجتمع والدولة المصرية، وشهدت قوتها الناعمة الكثير من فترات النهوض والانحدار، فمن عمالقة الأدب إلى عصر الأكثر مبيعًا، ومن ملحنين عظام إلى المهرجانات؛ أما السينما، فقد قاومت الواقعية الجديدة هبوط أفلام المقاولات، ليصعد فى فترة فاصلة المضحكون الجدد، وتراجع شباك التذاكر أمام أفكار السينما المستقلة التى قادت الألفية الجديدة.
فى الذكرى الخامسة والأربعين لبدء معركة التحرير، تستعيد «البوابة» عبر صفحات هذا الملف، المعارك الأخرى التى خاضتها القوى الناعمة المصرية طيلة هذه الأعوام، ومرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة الثقافية، وأشكال الفنون التى أثّرت فى المجتمع وتأثرت به، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه.
حرب أكتوبر.. لم تكن حربًا عسكرية على عدو خارجى فقط، بل تعدت ذلك إلى حرب فكرية سواء فى الداخل أو الخارج، أما على مستوى الداخل فكانت حربًا بين منهجين فكريين مختلفين، بين المنهج العقلى فى التفكير والمنهج الغيبي، حرب بين دعاة التقدم والتطور والتغيير ودخول العالم الحديث، وبين القابعين فى الماضى والوقوف عند لحظة تاريخية ما، بين إنتاج العلم وبناء الحضارة، وبين مستهلكى التكنولوجيا والعيش على بطولات الماضي.
فى الفترة التى أعقبت حرب أكتوبر حاول البعض الترويج لأسطورة «مشاركة الملائكة فى حرب أكتوبر» وأنهم رأوا ذلك بأنفسهم، وهو نفس مفهوم أن جبريل هبط فى رابعة وساند المعتصمين، ولكن الحقيقة أن المنهج العلمى الذى اتبعه الجيش فى التخطيط للحرب منذ الاستنزاف وبناء جيش جديد على أسس جديدة هو الذى صنع النصر.
كانت البداية بالاهتمام بنوعية المجند فلا يعقل أن يتحكم فى صاروخ سام ٦ مجند أمى لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك بدأت المؤهلات العليا توظف فى أماكنها الصحيحة فى الجيش المصري، فكان هناك عزيمة وإصرار وتخطيط من القيادة السياسية والعسكرية، بجانب الاهتمام بوحدتنا الوطنية ويثبت أن فكرة هدم خط بارليف كانت من ابتكار مهندس مسيحي، الذى هو لدى الجماعات المتأسلمة والفكر الغيبى لا يصلح أن يولى.

فؤاد زكريا.. وحرب الملائكة
عقب انتصار الجيش المصرى فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، قال شيخ الأزهر آنذاك عبدالحليم محمود، إن السبب فى النصر «محاربة الملائكة مع الجنود ضد إسرائيل»، ما دفع فؤاد زكريا للرد عليه فى مقال بصحيفة «الأهرام» بعنوان «معركتنا والتفكير اللا عقلى»، وفؤاد زكريا أكاديمى مصرى وعلم من أعلام الفكر العربى المعاصِر، تتلمذ على يد الفيلسوف الدكتور زكى نجيب محمود، فكان من أوائل من تلقوا العلم على يديه.
قدم فؤاد زكريا للمكتبة العربية العديد من الأعمال الفلسفية والفكرية المؤلفة والمترجمة بالإضافة الى مقالات ودراسات فى الصحف والمجلات تتصل بمشاكل فكرية واجتماعية ونقد السائد فى الفكر العربى والواقع المصري.
فى دراساته وكتاباته الفلسفية يقدم لغة فلسفية رصينة وقدرة فذة على التحليل والنقد وفهم دقيق للمصطلح الفلسفي، فؤاد زكريا أيضا هو صاحب مقال «العلمانية هى الحل» ردا على دعوة «الإسلام هو الحل»، وصاحب النظرية القائلة: إن الغزو الثقافى الغربى خرافة لا وجود لها، وأحد أبرز المعادين للمنهج السلفى ومنتقديه، فقد سخر من الاتجاهات الإسلامية المعاصرة الملتزمة بهذا المنهج، وادعى أنها بالتزامها به تركز على التمسك بشكل الإسلام دون مضمونه.
وانتقد فؤاد زكريا فى مقاله الشيخ عبدالحليم محمود ومنهجه، فكتب فى مقاله: «أستطيع أن أفهم، وإن لم أكن أستطيع أن أغتفر انتشار ألوان من التفكير اللا عقلى بيننا بعد يونيه ١٩٦٧، أستطيع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزيمة غير المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شيء يسير فى طريق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكير اللا عقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسيرات غيبية للظواهر، وهيأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القديمة، وتركن إلى التصديق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فيها أى نوع من التعويض».
ويستطرد قائلا: «على أنه إذا كان انتشار التفكير اللا عقلى أمرا مفهوما، بالرغم من أنه لا يغتفر، فى ظروف الهزيمة فإن الأمر الذى لا يمكن فهمه ولا اغتفاره هو أن تظهر ألوان جديدة من هذا التفكير بعد السادس من أكتوبر، فذلك لأننا كنا قد أعددنا العدة لكل شيء منذ زمن طويل، وحسبنا لكل عامل من العوامل حسابا، وأجرينا مئات التجارب على العبور، وكان واضحا أن التدريب الشاق والحساب العلمى الدقيق والتوقيت الذكى والتضليل المخطط والمرسوم للعدو، وفوق ذلك كله حماسة الجندى المصرى وشجاعته، كل هذه كانت العوامل الرئيسية فى النجاح الباهر الذى أحرزناه فى العبور وفى معارك الضفة الشرقية، ومع ذلك فقد عادت التعليلات اللا عقلية تطل برأسها من جديد، وكان ما يثير الإشفاق فى هذه التعليلات هو أنها تهيب بقوى غير منظورة قيل إنها حاربت معنا، ولم يدرك مرددو هذه الأقاويل أن تصديقها معناه أن الذى انتزع النصر ليس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطيط والحساب الدقيق لم يكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث، بل إن تصديق هذه الأقاويل يعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها يفترض أن ما حدث كان «معجزة»، وأن الأمور لو تركت لكى تسير فى مجراها الطبيعى لما أمكن أن يحدث ما حدث، ولست أستطيع أن أتصور فى ظروف التضحية الهائلة التى مر بها جيشنا جحودا أشد من ذلك الذى ينطوى عليه هذا الافتراض الضمني».

فرج فودة.. شهيد التنوير
الكاتب والمفكر المصرى الذى تم اغتياله بسبب أفكاره التنويرية والذى يعد بحق شهيد التنوير، ولد فى ٢٠ أغسطس ١٩٤٥ ببلدة الزرقا بمحافظة دمياط، حاصل على ماجستير العلوم الزراعية ودكتوراه الفلسفة فى الاقتصاد الزراعى من جامعة عين شمس، تم اغتياله على يد الجماعة الإسلامية فى ٨ يونيو ١٩٩٢ فى القاهرة، حيث أثارت كتاباته جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء وتضاربت فقد طالب بفصل الدين عن السياسة والدولة وليس عن المجتمع.
أيد «فودة» إعادة السادات للحياة الحزبية عام ١٩٧٨، وفى نفس الوقت حمل السادات المسئولية عن نمو التيارات الدينية، إذ أكد فى أكثر من مرة أن الجماعات الإسلامية فى الجامعات، قد تكونت على يد مباحث أمن الدولة، لمواجهة الناصريين واليساريين وبتوجيه من السادات، واعتبر أن اكتساحها للانتخابات الطلابية فى نهاية حياته، بعد أن فقد السيطرة عليها، كان كابوسا يؤرق منامه.
كما تقبل فودة تضمن دستور ١٩٧١ ضمن نصوصه، لأول مرة، «أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع»، بدعوى أن أغلب القوانين المدنية مستقاة من أحكام الشريعة الإسلامية، لكنه عارض السادات عند تعديل المادة السابقة بالنص على أن الشريعة الإسلامية هى «المصدر» الرئيسى للتشريع، بإضافة حرفى الألف واللام، وطرحها ضمن استفتاء عام قبل وفاته فى عام ١٩٨١، ضمن مجموعة من البنود، والتى على الناخب أن يجيب عليها جملة واحدة بالإيجاب أو النفي، حيث اعتبر فرج فودة إضافة هذه المادة تمهيدًا لقيام الدولة الدينية، المقوضة بالضرورة للدولة المدنية.
ويعد فرج فودة واحدًا من المفكرين القليلين الذين أيدوا استعادة السادات لسيناء عن طريق معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى حين اعتقد فودة أن حرب ٦ أكتوبر ١٩٧٣ لم تعالج بصورة عقلانية تسمح بإدراك أهم دروسها، بل صبت المعالجة فى صالح التفكير غير العقلانى، حيث يقول فى كتابه قبل السقوط: «إن أحدا ما لم ينتبه حين اندفعت الأقلام بعد حرب ١٩٧٣، مصورة ما حدث وكأنه انتصار أتى من السماء على مؤمنين صادقين. هتفوا بأن الله أكبر، فأمدهم الله بجنده، وأعزهم بنصره، بل وأقسم البعض بأنه رأى الملائكة محاربين معه فى الصفوف، ونسى المروجون لهذه القصص، أن الإسلام الحقيقى يتمثل فيما فعله المصريون خلال سنوات ما قبل الحرب، من تعلم وتدريب واستعداد بأحدث العلوم، وأساليب العصر وأنه لو كان الأمر صيحة أو بركة تحل، لهان الأمر، لكنه تيار دعائى ساد، ولم يواجهه أحد، فأصبح مؤشرا حقيقيا وخطيرا لتراجع العقل أمام المزايدة، والعمل أمام الغيبيات».
لم تكن معارك فرج فودة فى مواجهة النظام وحسب، بل كانت فى مواجهة تيار كامل استطاع أن يتغلغل داخل الحياة الحزبية، فقد خاض فودة معركة داخل حزب الوفد الجديد لمنع تحالف الحزب مع الإخوان المسلمين فى الانتخابات البرلمانية فى عام ١٩٨٤.
أورد فرج فودة أفكاره السياسية خلال هذا الصراع فى كتابه الأول «الوفد والمستقبل» (١٩٨٣)، وفشل فى منع ذلك التحالف، والذى قاده داخل الحزب الشيخ صلاح أبو إسماعيل (١٩٢٧-١٩٩٠)، ونجح بفضله الوفد فى الحصول على ٥٨ مقعدا (١٥٪ من مجلس الشعب)، واستقال فرج فودة من الحزب فى ٢٦ يناير ١٩٨٤.
رأى فرج فودة انتصار التحالف الإسلامى ونجاح الإخوان المسلمين خطرا حقيقيًا على الدولة، وأشار إلى أن التيار الإسلامى قد تعلم من خطئه فى انتخابات ١٩٨٤ التى خاضها تياره التقليدى (الإخوان) الساعى فى رأيه إلى «تحقيق الإرهاب بالشرعية» بدون تأييد تياره الثورى (جماعات الإرهاب المسلح) الساعى إلى «ضرب الشرعية بالإرهاب»، ليتوحد التياران فى انتخابات ١٩٨٧، «فإن أشهر أمراء الجماعات فى المنيا قد رشح نفسه على قائمة التحالف ودافع عن شعاراته وراياته، وأصبح عضوا فى المجلس بالفعل، وزامل فى عضويته أعضاء آخرين، كانوا أمراء للجماعات الإسلامية وقت أن كانوا طلابا، وأصبحوا ممثلين لهذا التيار فى نقاباتهم المهنية».
ويزعم فودة أن الحملة الانتخابية للتحالف تم تمويلها عن طريق بيوت توظيف الأموال الإسلامية والتى تمثل ما أسماه فرج فودة باسم «التيار التروي».
وينتمى فكر فرج فودة إلى ما يسميه بالعصر الثانى للتنوير المصري، والذى يتميز عن عصر رواد التنوير مثل الطهطاوى وعلى مبارك وأحمد لطفى السيد وسعد زغلول وقاسم أمين وطه حسين وعلى عبدالرازق وأحمد أمين فى نشوئه فى بيئة أكثر عداءً وعنفًا، وإلى جرأته فى معالجة الكثير من القضايا التى تحاشاها جيل الرواد، حيث اعتبر فرج فودة أن الاتجاهات الإسلامية المتطرفة نجحت فى إشاعة جو من الإرهاب الفكرى السياسي، حيث إن العديد من الأسئلة التى سبق وطرحها المفكرون المصريون فى العشرينيات لا يجرؤ مفكر على أن يطرحها اليوم.

رفعت السعيد والمعركة مع تيارات الإسلام السياسي
لم نجد مقدمة تعبر عن معركة الفكر التى تخوضها مصر بعد المعركة العسكرية فى ٧٣ أبلغ من الإهداء الذى قدم به رفعت السعيد كتابه «حسن البنا.. متى، وكيف، ولماذا؟» حيث قال فى هذا الإهداء: «إلى كل من يعمل من أجل تنوير جديد لمصر، ويصد عنها غارات التتار الجدد»، هكذا يصف لنا السعيد نوعية المعركة التى نخوضها، وطبيعتها وطبيعة العدو، نعم إنها غارات أو غزوات كما أطلق عليها الحوينى وغيره من قادة التيار المتأسلم، فهم لم يحاربونا وجها لوجه ولا يقومون بحرب حقيقية محض غارات للترويع وإرهاب الأمنين، تلك الغارات التى جعلت رفعت السعيد وغيره ممن تطوعوا للنضال ضد هذه الجماعات يصرون على كشف حقيقتهم وفضح ممارساتهم وأهدافهم القريبة والبعيدة.
ويؤكد «السعيد» فى كتاباته التى خصصها لمعركة مصر مع جماعات التطرف والإرهاب، منهجه الأساسى فى أن «الارهاب يبدأ فكرا» فيقول «فليس بإمكان أحد مثلا أن يحاكم الصبى الجاهل الذى اغتال فرج فودة وهو لم يقرأ حرفا واحدا مما كتب.. ولا يحاكم «الفقيه.. الإخوانى المعتدل» كما كانوا يسمونه، الذى أفتى بأن فرج فودة مرتد، ونفس الشيء بالنسبة لمحاولة اغتيال نجيب محفوظ، فالفتى الذى طعنه بسكين لم يقرأ حرفا من روايته «أولاد حارتنا» ولا من أى رواية أخرى لنجيب محفوظ أو لغيره، لكنه سمع أن «الشيخ فلان» أفتى بكفر الكاتب والكتابة».
هكذا يؤكد لنا رفعت السعيد حجم المعركة وخطورتها، وهو المؤرخ السياسى الذى كرس وقته فى مواجهة هذه الجماعات متوغلا فى تحليل ظروف نشأتها التاريخية وعوامل تطورها.

نصر حامد أبو زيد وقراءة التراث
محارب آخر فى معركة الوجود التى بدأت بعد أكتوبر ٧٣، هو نصر حامد أبو زيد، صاحب المعركة الأشهر فى نهاية القرن العشرين وحتى الآن، والذى فتح جبهة جديدة على ساحة المعركة فى العقد الأخير من القرن الماضى وهى جبهة تأويل النصوص، حيث تعد إشكالية التأويل فى التراث العربى الإسلامى من أهم الإشكاليات النظرية والفكرية التى خاضها العديد من المفكرين والفلاسفة والفقهاء لصياغة مواقف أيديولوجية واجتماعية وسياسية تشير إلى تداخل العقدى بالنظري، تلك الإشكالية التى أصبحت ساحة لمعركة نصر حامد أبو زيد بعقليته النقدية التى تعبر عن «موقف من الواقع الراهن السياسى والاجتماعى والاقتصادى من جهة، وعن موقف من التراث الدينى الإسلامى بصفة خاصة».
حدد نصر أبو زيد معركته وحدد طرائق خوضها منذ البداية مستكملا ما بدأه الرواد من قبله، طه حسين وأمين الخولى ومحمد أحمد خلف الله وغيرهم، تلك المعركة التى لا تختلف كثيرا عن معركة فؤاد زكريا وفرج فودة وعبد الرحيم على وآخرين، ساروا على الدرب نفسه بعدما تحولت معاركنا من ساحة القتال مع عدو خارجى إلى ساحة قتال داخلية جانب منها يستخدم الفكر والقلم والجانب الآخر يستخدم الرصاص والإرهاب والإقصاء وإلقاء التهم، فقد اختلفت طبيعة المعركة باختلاف أطراف المواجهة.
ونجد أن القضية الرئيسة فى معركة أبو زيد لا تتمثل فى كيف نجدّد التراث بقدر ما تتجلى فى إعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر، ولتحقيق هذه الغاية تبنى آليات تحليل الخطاب فيتعامل مع النصوص الدينية باعتبارها نصوصا منتجة للمعنى الكلي، وفى هذا السياق يشدد أبو زيد على ضرورة الوعى بأن جميع النصوص بما فى ذلك النصوص المقدسة هى نصوص لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التى تشكلت فيها، بيد أن ذلك لا يعنى بالضرورة أن «إشكاليات القراءة تتمثل فى اكتشاف الدلالات فى سياقها التاريخى الثقافى الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى محاولة الوصول إلى المغزى المعاصر للنص التراثي، فكل قراءة لا تبدأ من فراغ، بل هى قراءة تبدأ من طرح أسئلة تبحث لها عن إجابات فى طبيعة الأسئلة تحدّد للقراءات آلياتها»، ومن هذا المنطلق اعتنى المشروع النقدى لنصر حامد بطرق قراءة النصوص الدينية بتفكيك بناها وتبيين مقوماتها، على أن أهم مقاربة عول عليها فى قراءة الموروث الدينى هى المقاربة التأويلية التى تعد المقوم الرئيس فى مشروعه النقدى الساعى إلى تجاوز النظرة التقليدية للتراث من خلال إعادة النظر فى المسلمات التى حولها الضمير الدينى إلى حقائق متعالية عن التاريخ، أو بمعنى آخر تم تحويلها إلى مقدس.
هكذا اختلفت نوعية المعركة وآلياتها والأسلحة المستخدمة، تحولت معركة أكتوبر من حرب لاسترداد أرض مغتصبة وكرامة مهدرة، إلى حرب لاسترداد العقل والوجود، حرب لأنسنة الأشياء والعيش فى ظل حقوق المواطنة والحرية دون فرض وصاية من فصيل على فصيل أو إقصاء طرف لصالح طرف، فهى حرب للوجود والكينونة الفاعلة غير المستكينة لتراث لا يتحرك، حرب من أجل الحياة.

عبد الرحيم على وفضح جماعات الإسلام السياسي
حمل عبد الرحيم علي، ميراثا كبيرا من سابقيه ومعاصريه من مفكرى التنوير فى مصر والعالم العربي، هذا الميراث الذى أكد له أن معركته الأساسية والتى يستمد شعلتها من المعارك الكبرى التى خاضها هذا الوطن ومن بينها حرب أكتوبر، هى معركة التنوير فى مواجهة الفكر الظلامى المتطرف، حيث شارك منذ بداياته فى العديد من المؤتمرات والندوات فى الداخل والخارج، كذلك المساهمة فى كتابة العديد من الأفلام التسجيلية ومشروعات البرامج الخاصة بحركات الإسلام السياسي، كذلك محاضراته فى عدد كبير من الدول العربية والأوروبية حول هذه الجماعات ومدى خطورتها على الداخل والخارج، وقد كشف، فى معظم كتاباته وبرامجه الوجه القبيح لتلك الجماعات فاضحًا التاريخ الإجرامى الطويل لجماعة الإخوان منذ النشأة وحتى الآن، فإن لم تكن هى مرتكبة العنف والإرهاب فإنها تغض الطرف عنه ولا تعمل على إدانته إلا إذا كانت هذه الإدانة ستصب فى مصلحتها، وأيضا لا يخفى على أحد أن معظم التنظيمات الإرهابية والمسلحة التى عملت فى مصر خارجة من رحم الإخوان، سواء كانت الجماعة الإسلامية أو الجهاد الإسلامى أو التكفير والهجرة.. وفى مرحلة تالية «تنظيم القاعدة» و«داعش» وغيرها من هذه الجماعات والكيانات الإرهابية.
يؤكد «علي» فى معظم كتاباته أنه لكى ندرك مدى ما تسببت فيه أفكار جماعة الإخوان المسلمين ورؤاها، وتجربة «النظام الخاص»- الجناح العسكرى لتنظيم الإخوان- وبشكل خاص أفكار سيد قطب، العلم والمنظر الإخواني، من دمار فى عالمنا المعاصر- لابد أن نتعرف، على تأثيرات سيد قطب، على أجيال عديدة منذ بدء ما سُمى «بالصحوة الإسلامية» فى سبعينيات القرن الماضي، فقد أثر الرجل على عقول الكثير من الشباب الذين تداولوا أقواله جيلًا بعد جيل، بدءًا من مجموعة الفنية العسكرية (التى حاولت الاستيلاء على السلطة بالقوة عام ١٩٧٤ عن طريق الاستيلاء على أسلحة كلية الفنية العسكرية واستخدامها فى مهاجمة مقر الاتحاد الاشتراكى الذى كان يجتمع فيه الرئيس الراحل أنور السادات مع قادة نظامه)، وانتهاء بأجيال تنظيم القاعدة المختلفة، مرورًا بأفكار تنظيمى الجماعة الإسلامية والجهاد المصريين. هذا فضلًا عن أشهر منظرى الجهاديين فى العالم كـ«سيد إمام الشريف» المعروف بالدكتور فضل، ومصطفى الست مريم المعروف بأبى مصعب السوري، ومن ثم أبو بكر البغدادي.
تحولت الحرب من حرب خارجية إلى حرب داخلية برعاية إسرائيل وحلفائها، وما يؤكد هذا أن معظم هذه التيارات الإسلامية دائما ما تطالب وتنادى بتحرير القدس وبدلا من توجيه رصاصها للعدو الصهيونى يتم توجيه رصاصات الغدر والخيانة ليس للجندى المصرى فقط بل للمواطن المصرى أيضا، هذا ما يؤكد عليه ويفضحه الدكتور عبدالرحيم علي، من خلال كم هائل من الكتابات والبرامج التليفزيونية، فمعركتنا مع هذه الجماعات لا تقل خطورة وأهمية بحال عن معركة أكتوبر ١٩٧٣.
تميزت معركة عبد الرحيم على مع هذا الفكر الظلامى القابع فى الماضي، بالتركيز على البعد السياسى لهذه الجماعات محللًا تلك الممارسات وخطورتها، وإن استند فى بعض الأحيان إلى مرجعياتها الحديثة بداية من البنا والمودودى وسيد قطب، لكنه لم يورط نفسه فى مناقشة الجذور التى تفرعت منها هذه الجماعات فى الفقه الإسلامي، فيهتم بالعام والذى يشغل العامة دون الإغراق فى خطاب أكاديمى يقتصر على القليل من المتخصصين.