الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

درس هيكل قبل وصوله «دار العودة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«مصر مقبلة على ما لم تشهده من قبل فى تاريخها.. هذان العامان سيحكيان لنا عما سيحدث.. هتشوفوا اللى عمركم ما شفتوه قبل كده».. بهذه العبارة ختم الأستاذ محمد حسنين هيكل، رحمة الله، عليه ندوة عقدت بنادى القضاة فى مايو عام 2008، ليتحدث إلى قضاة مصر فى المقر النهرى لناديهم.
كان الأستاذ عائدًا لتوه من رحلة استمرت ستة أسابيع خارج مصر قضى منها فترة غير قصيرة بالولايات المتحدة لمتابعة تطورات الانتخابات الأمريكية، «تلك الانتخابات غير مسبوقة، ورغم أن الرئيس المقبل من وجهة نظرى لن يكون أفضل من بوش، بل أعتقد أنه سيكون أسوأ منه فى تقديرى، فإن متابعتها مهمة»، قال هيكل معلقًا.
كانت تلك هى المرة الأولى التى ألتقى فيها بـ«رسول الصحافة»، كنت أتتبعه، أقلب صفحات كتبه من «سنوات الغليان» و«خريف الغضب» إلى «مدافع آيات الله» و«العربى التائه»، انتظر إطلالته على قناة الجزيرة لأنظر إلى العالم من خلاله، جذبنى هذا الصحفى العجوز فى خبرته، الشاب فى نشاطه وشغفه.
لم يخيب هيكل ظنى فيه، فالرجل الذى تجاوز الخامسة والثمانين حينها ما زال شغوفًا بالخبر، يتتبعه حيث كان، يذهب إلى أمريكا ليرى ويسمع ويستقصى المعلومات من مصادرها، «لن أنشرها لأى صحيفة لكن يموت الزمار وإيديه بتلعب».
منذ أن بدأت الخدمة فى بلاط صاحبة الجلالة وأن أحلم بلقائه ومجالسته والاستماع إليه، وكانت ندوة نادى القضاة الذى أغطى أخباره فرصة لتحقيق حلم الوقوف أمام رسول المهنة الذى هبط عليه وحيها فأمسك به، ولم يفلته حتى صعدا معًا إلى ربهما.
تحدث هيكل فى بداية الندوة بإسهاب عن الوضع فى الإقليم، بعدها قال: السؤال الذى يواجهنى دائمًا إحنا رايحين على فين؟ وأقول إجابة مختصرة حملها بيت شعر لحافظ إبراهيم بأننا «رايحين فى داهية»، فضحك الحضور.
لم يشأ الأستاذ أن يضع القضاة فى حرج بحديثه عن الأوضاع الداخلية، فأزمتهم مع نظام مبارك كانت دائرة، «دائمًا ما أتعرض لأزمات ومشاكل ولا يهمنى، ولكن لا أريد هنا أن تحدث لكم مشاكل»، لم يستطع هيكل مقاومة إغراء الحديث عن الوضع الداخلى، فختم الندوة برد على سؤال للزميل مجدى الجلاد، رئيس تحرير «المصرى اليوم» حينها، «هل سنتعرض لردة عن الإصلاح فى حرية الرأى والتعبير خلال الفترة المقبلة»، فأجاب هيكل بقوله: «أخالفك الرأى، فما سيحدث هو شدة وليست ردة، ومصر مقبلة خلال الفترة المقبلة على ما لم تشهده من قبل فى تاريخها».
وأضاف: «مصادفة أن أحضر إلى نادى القضاة فى نفس التوقيت الذى يصدر فيه قرار بمد الطوارئ لمدة عامين.. مطلوب من جميع الأطراف المعنية أن تتدبر مواقفها وخطواتها جيدًا لمعرفة كيف يمكن أن تواجه الأزمة.. هذان العامان سيحكيان لنا عما سيحدث.. هتشوفوا اللى عمركم ما شفتوه قبل كده».
بعد نحو عامين، تحققت نبؤة الجورنالجى الأهم والمحلل الإستراتيجى الأوحد الذى فتح له التاريخ صفحاته ليقلبها فتمكن من قراءة المستقبل، ورأى ما لم نرَ وتوقع المعجزة، و«شفنا اللى عمرنا ما شفناه»، سقط رئيس جثم على أنفاس الوطن 30 عامًا، وواجهت مصر مصيرها ولا تزال.
كلما سمعت أو قرأت عن تجربته فى بلاط تلك المهنة من تلميذه الأقرب الأستاذ عبدالله السناوى أشعر بضآلتى وبأننى لم أراوح مكانى وعلى أن أبدأ من جديد.. إدارته للوقت، شغفه بالمعرفة، سؤاله الدائم «إيه الأخبار؟»، تدوينه لما يسمع، إدراكه لقيمة الوثيقة والصورة، معاركه وترفعه وعدم التفاته للصغائر، هكذا صار كبيرًا.
بالرغم من تسلل علامات السن على وجهه فإن ذهنه ظل حاضرًا، بدا فى المرات القليلة التى التقيته فيها بمكتبه على نيل الجيزة حريصا على المتابعة الدقيقة لكل ما يجرى، لكن فى المرة الأخيرة قبل وفاته بأسابيع وخلال احتفال أصدقائه وتلاميذه بعيد ميلاده الأخير تفحصت وجهه فشعرت بأننى أمام رجل يلملم أوراقه، ويستعد للرحلة الأخيرة، مع ذلك لم يفته أن يلخص للحضور ما يجرى ويدور، أوجز جملة واحدة وصفًا دقيقًا للوضع «لا تستطيع أن تستعيد سلطة وشعبية جمال عبدالناصر بسياسات إسماعيل باشا صدقى».
حذر الأستاذ فى تلك الجلسة من عواقب تفكيك الجبهة الداخلية: «لو استمر التفكك فى الجبهة الداخلية فمصر مقبلة على كارثة»، مؤكدًا أن الدولة تحتاج إعادة النظر فى أولوياتها فى هذه اللحظة.
وتسأل: «ماذا نفعل؟.. نحن أمام ناس تائهة.. العصر طرح حقائق جديدة ومتغيرات جديدة.. ونحن خياراتنا كما هى لم تتغير ولا تصلح لمسايرة المتغيرات الجديدة.. وعندما تضيع من المجتمعات قضاياها الحقيقية، يضطرون إلى الصراخ للتعبير عن أنفسهم حتى يلتفت الآخرون لهم ويطمئنون أنفسهم أيضًا».
ويعود هيكل ويؤكد أن المثقفين والنخب لعبوا أدوارًا مهمة قبل ثورة 23 يوليو وطرحوا قضايا كبرى وتمت مناقشتها قبل اندلاع الثورة فمهدوا لما حدث، مضيفًا: «البلد للأسف جرى عليه وابور زلط فبططه»، لكنه لم يفقد الأمل، مشددًا على وجود مفكرين ومثقفين يستطيعون مناقشة القضايا الكبرى وهناك قوى منحازة لقضايا العدل والعدالة الاجتماعية لكننا نحتاج تنظيم العقل المصرى».
وختم الأستاذ، قائلًا: نحتاج عقولًا ترصد التطورات التى جرت فى الداخل والخارج، حتى نعرف من أين نبدأ.
رحل الجورنالجى بعد تلك الجلسة الكاشفة بأسابيع، مضى إلى «دار العودة» بعد أن أشار إلى مواقع الخلل، ولفت النظر إلى مفاتيح الحل.
رحم الله الأستاذ هيكل