الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«جيمس بوند».. على طريقة الموساد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من أصدق مشاهد رائعة الراحل صالح مرسي «رأفت الهجان» حوار يجمع بين رفعت الجمال «رأفت الهجان» قبل سفره إلى إسرائيل وضابط المخابرات المصرى حول مبالغات يحلو للعرب تحويلها إلى وحوش لا تُقهَر منها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. بعيدا عن صيغ التهوين والتهويل، هى أجهزة تملك كفاءة مكنتها من تنفيذ عمليات استخبارية ناجحة أبرزها الاغتيالات وزرع عملاء فى بعض الدول.. فى المقابل هى أيضا تعرضت لعدد لا يُحصى من الضربات القاتلة تحديدا على يد المخابرات المصرية.
عبر مراحل الصراع الاستخبارى بين مصر وإسرائيل، سمحت الأولى بكشف بطولات من ملفات عملياتها الموثقة بالأدلة والأسماء فى إطار عدم المساس بالأمن القومي.. من جهة أخرى، اكتفت الثانية بالردود المرسلة التى تنفى وقائع هذه الملفات. تمخض مؤخرا جبل «الموساد» عن فأر «الملاك»، الذى يعتبر أول رد من إسرائيل على بطولات المخابرات المصرية، عبرعمل فنى يزعم كشف صلة أشرف مروان، صهر الرئيس جمال عبدالناصر، بالمخابرات الإسرائيلية. 
مقومات العمل لم تتضمن عنصرا فنيا يستحق الارتقاء به إلى مستوى فيلم درامي، وثائقي، أو تسجيلي.. «كوكتيل» ردىء المذاق من الأداء الباهت، صياغة ميلودرامية حافلة بالمبالغة، سيناريو مفكك، أحداث مفتعلة.. توليفة تعيد المشاهد إلى عصر رواج أفلام المقاولات خلال الثمانينيات. المثير للدهشة أن شركتى إنتاج الفيلم الإسرائيلية والفرنسية اقتبست أحداثه عن رواية الإسرائيلى آورى بارجوزيف أستاذ العلوم السياسية المتخصص فى الأمن القومى والدراسات الاستخبارية حول الصراع العربى الإسرائيلي، رغم ذلك لم يحتو على حقيقة واحدة عن الأحداث التى يفترض تطرق العمل لها. على الصعيد الشخصي، المعروف للبعيد قبل القريب من عائلة الرئيس عبدالناصر انضباط واستقرار الحياة الزوجية لكلتا ابنتيه.. تحديدا نظرة الرئيس عبدالناصر لمروان قامت على ثقة مطلقة بنيت على أساسها فكرة الاعتماد عليه بتنسيق مع جهاز المخابرات المصرية، للتواصل مع السفارة الإسرائيلية فى لندن كطعم مثالي، علما بأن ذلك لم يحدث خلال دراسة مروان، لكن قبل وفاة الرئيس عبدالناصر بأشهر وفق شهادات رجال المخابرات المصرية الذين عاصروا خطة الخداع الاستراتيجى الناجحة التى سقط فيها رجال الموساد. اهتمام إسرائيل،لأول مرة، بعرض فيلم عما زعموا أنه عميل مزدوج! يطرح علامات استفهام خصوصا أنها لم تكن معنية بتقديم أعمال أمنية وسياسية تحمل مثل هذه التفاصيل- وإن كانت كاذبة - كالتى جاءت فى «الملاك».
الملامح الكاشفة لشخصية أشرف مروان أثناء لقاءات جمعتنى به خلال مناسبات اجتماعية فى لندن، تظهر فورا أن الرجل لا يعرف كلمة انفعال.. وجه هادئ يخلو من أى تعبير أو رد فعل.. حين استفسر أحد الحضور عن سبب عدم تناوله مشروبا كحوليا، رد بهدوء باللغة الإنجليزية (فى الماضى لم تكن عندى مقدرة تحمل ثمنه..الآن لا أستطيع بحكم عملي).. يستمع جيدا من خلف نظارته الغامقة دون مشاركة سوى بكلمات عامة.. باختصار هو الشخصية النموذجية للمهام السياسية والدبلوماسية – سواء المعلنة أو السرية- بين قادة الدول وأجهزتها المختلفة، سلاسة تواصله مع صُناع القرار العربى آنذاك لم تكن دورا مثاليا لطبيعة شخصية مروان فقط.. لكنها أيضا كانت عنصر تميز أغرى الاستخبارات الإسرائيلية كونه سيصبح كنز معلومات ثمينا لهم ردا على كل محاولات خلط الحقائق والأكاذيب، أمر ليس مستبعدا من كيان قام أصلا على أكذوبة، سبق أن أعطى رؤساء مصريون عدة إشارات واضحة تؤكد الدور البطولى الذى تفانى مروان فى إنجازه رغم علمه أنه سيكون على حساب حياته. أبرز ما يختصر حقيقة دور مروان شهادة رئيس المخابرات العسكرية «آمان» ايلى زعيرا فى مذكراته «أن مروان يمثل بصمة سوداء فى تاريخ التجنيد والموساد، فقد جعل من هذا الصرح أضحوكة».
الصورة الهزلية لشخصية «جيمس بوند» كما طرحتها الرؤية الإسرائيلية. خصوصا فى مشاهد مثل إفشال عملية فدائية لشباب فلسطينى ضد طائرة إسرائيلية، أو لقاءاته مع رجال الموساد، بالتأكيد أبعد ما يكون عن حقيقة وطبيعة دور مروان.. علما بأن المعروف فى صراع أجهزة المخابرات إمداد العنصر المطلوب دسه على الطرف الآخر بمعلومات مدروسة تسهل مهمة اختراق الأجهزة المعادية وتُسبِغ مصداقية على العنصر.
التساؤل الذى بدأ يفرض نفسه بإلحاح بعد فيلم الملاك حول عدم ظهور رد من الجانب المصري، قد يبدو مشروعا، لكنه من جهة أخرى يغفل حقيقة هامة سمعتها من الراحل صالح مرسى حول آلية الإعلان عن ملفات العمليات المخابراتية والتى تكشف فقط بعد استنفاد كل دواعى الأمن القومى المرتبطة بالعملية حتى وإن مر عليها عقود.. من جهة أخرى، كشف الملف عملية بالغة الأهمية حول دور أشرف مروان البطولى يقتضى اكتمال التفاصيل المسموح بإعلانها حتى لا تظهر فى صياغة ركيكة مثل فيلم الملاك.. وهو ما لا يليق بمكانة المخابرات المصرية التى تنأى بنفسها عن المتاجرة ببطولات رجالها فى سوق الأكاذيب والمبالغات.