الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

أكرم حبيب يكشف عن أبعاد المشروع الفكري للأنبا إبيفانيوس

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قدم أكرم حبيب، الباحث الكنسي ومدير مجلة مدارس الأحد السابق، مقالا بعنوان "خواطر حول مسيرة نيافة الأنبا إبيفانيوس العلمية" للنشر في الكتاب التذكاري الذى أصدره دير أنبا مقار في ذكرى الأربعين للشهيد العلامة الأنبا إبيفانيوس وللأسف لم ينشر بالكتاب إلا جزء صغير من المقال الذى حصلنا عليه وننفرد بنشره كاملا:
"كرر الكثيرون أن استشهاد أبونا الأسقف نيافة الأنبا إبيفانيوس لم يكن مجرد موت جسد، أو القضاء على حياة، ولا حتى وضع نهاية لسيرة هذا الأب العظيم، بقدر ما تحولت هذه الحادثة بنعمة الروح القدس إلى كسر قارورة طيب زجاجية هشه، نعم تهشمت القارورة الضعيفة، ثم فاح الطيب منها، وملئ الساحة برائحته المنعشة، والتفت الكثيرون ممن لم يكونوا على علم به، يتساءلون عن هذا الطيب، وعن مصدره، وكيف يتمتعون برائحته، بل تجرأ البعض وسألوا، أيوجد مثل هذه الرائحة فى واقعنا؟.
ولا أعتقد أن هذا مجرد تشبيه لغوى بليغ، بقدر ما يعبر عن حقيقة كتابية، فكل منا مجرد إناء من الفخار، أو من الزجاج، قال الرب لحنانيا قديما وكان يتحدث عن شاول الذى صار بولس "لأن هذا لي إناء مختار، ليحمل اسمي أمام أمم وملوك" (أع 9: 15)، نعم بولس كان مجرد قنينة، أو إناء، ونحن نعرف أنه لا قيمة عالية للإناء فى حد ذاته، بل الأثمن والأكثر قيمة هو ما يحتويه هذا الإناء فى داخله، بل عندما نجد إناءًا غال الثمن فهذا معناه أنه معد لحمل نمادة نادرة أغلى ثمنأً بكثير، ومنذ أيام تهشم إناء أنبا أبيفانيوس، وعرفنا طبيعة وندره ما يحتويه الإناء المهشم.
أعرف أن الكثيرين يريدون أن يتحدثوا عن أسقفنا الراحل، ولكننى هنا أريد أن أتحدث فقط عن مشروعه الفكرى والعلمى، هذا المشروع الذى يعتبر أهم ما قدمه للكنيسة فى حياته، البعض يرى الأنبا إبيفانيوس قامة روحية عالية، يمثل إحتبارًا شخصيا لروعة الفداء والخلاص المحرر، أمرًا نحتاج أن نلقى النور على أسراه، وهذا حق بلا أى شك، والبعض الآخر يرى الأنبا إبيفانيوس أسقفًا نموذجا لكيف يجب أن تكون الأسقفية كأبوة لا كسيادة، وهذا أيضًا حق لا شك فيه، وتوجد جوانب أخرى عديدة فى شخصية هذا الرجل النادر، وكلها حقائق تحتاج أن نسبر أغوراها، ولكنى أستئذنكم أن أركز على جانب واحد أراه مهمًا، وأعتقد أنه لا يقل أهمية عن باقى الجوانب.
إننى أقدر العلم، وأحترم المعرفة، لا عبادة منى للعلم، ولا تقديس للمعرفة، ولكن طاعة لتعاليم الكتاب المقدس، فقد تعلمت أن أتعامل مع آيات الكتاب المقدس بكل جدية، وعندما يقول الكتاب "هلك شعبي من عدم المعرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا" (هوشع 4: 6)، فأنا أقف أمام هذه الكلمات بكل الخوف والمهابة، عندما يقول الكتاب أن من يرفض المعرفة سيرفضه الله، أصدق وأتعامل مع الموضوع كقضية جدية خطيرة، وليس كنوع من أنواع البلاغة، وأشخاص مثل الأنبا إبيفانيوس هم فقط من يساعدونى للقضاء على مخاوفى، لأنى أراه عالمًا شامخًا، يؤمن بالمعرفة ويحترم العلم وقد أرسله الله إلينا نبيا للمعرفة كى يسهل طريقها للجميع.
أعتقد أن الأسقف العالم الأنبا إبيفانيوس قد تميز فى هذا الجانب بسمات ثلاث:
(1) حامل لمشروع فكرى:
كان أبونا الأسقف أنبا إبيفانيوس خادم صاحب مشروع فكرى روحى، وما أقل أصحاب المشاريع الفكرية والرعوية فى بلادنا وأيضًا فى كنيستنا، لم يكن مجرد مؤلف لعدة كتب ولا باحث ولا دارس لموضوعات معينة أحبها وتخصص فيها، ولكن جاءت كل مؤلفاته وبحوثته ودروسه فى إطار مشروع ثقافى فكرى روحى معين، كان يهتم بالربط الفكرى بين ينابيع الحياة المسيحية المكتوبة باللغة اليونانية وبين الثقافة المسيحية العربية المعاصرة.
كان الأنبا إبيفانيوس يرى أن الحالة الثقافية المسيحية العربية المعاصرة ضعيفة الإتصال بجذورها اليونانية الأولى، وعمل على معالجة هذه الثغرة، فنادى بإعادة ترجمة النصوص التأسيسية للحياة الروحية، ترجمات جديدة علمية دقيقة تمثل مشروعًا ضخمًا لإعادة التراث الأول إلى الساحة، بدأ أبونا الأسقف بإعادة ترجمة وتحقيق النصوص الليتروجية الأساسية، وقدم لنا نصوص القداسات الثلاثة فى نسخ محققة مترجمة عن النصوص الأصلية المتاحة، وفى نفس الإطار كان قد قدم كتابه الهام عن نص ليتروجية أو خولاجى الدير الأبيض، ثم إنتقل إلى أحد أهم النصوص الأساسية وهى الترجمة السبعينية للعهد القديم.
أدرك الأنبا إبيفانيوس أن الفكر اللاهوتى فى الكنيسة العربية يبنى على مصادر ثلاث: الكتاب المقدس، ونصوص الليتروجيات، والتراث النسكى، لذا بنى مشروعه على هذه الثلاثية، وبالتالى كان إنتاجه قد صدر ليغطى النصوص الأساسية فى هذه المصادر الثلاثة.
وقد نبع هذا المشروع من رؤية علمية أكاديمية صرفة، كان يحلم بيوم يأتى يكون لدينا فيه نسخة كاملة من الترجمة السبعينية فى اللغة العربية، تساعدنا على فهم أسفار العهد القديم، وإدراك العديد من ألغاز اللغة القديمة، بدلًا من أن نظل أسرى للترجمات العربية المنتشرة، والتى لا تكفى بالكاد أن تسد جوع القارئ العادى، فما بال الباحث والدارس والمفسر، بالإضافة إلى ما نعانى منه من شوائب طالت هذه النصوص المنتشرة بين أيدينا، وبعضها شوائب خطيرة قد تنحرف بنا عن المسار الروحى السليم ونحن غافلين، كتب أنبا إبيفانيوس فى مقدمة كتاب خولاجى الدير الأبيض يقول وهو يعلق على النصوص الأصلية القديمة "بمقارنة هذه النصوص بما نمارسه اليوم، يتضح لنا مدى بعدنا أو قربنا من هذه الممارسات"، وبالطبع كان مشغول أكثر بمدى بعدنا عن الممارسات الأولى، ثم يضيف أن ما يجب القيام به فى هذا المشروع من أعمال علمية "تشرح وتفسر لنا بعض النصوص التى تبدو غامضة فى ممارساتنا الحالية، بسبب ضعف الترجمة أو بعدها عن الأصل المترجم عنه".
تبلور هذا المشروع الفكرى المتكامل فى قلب وعقل الأنبا إبيفانيوس منذ السنوات الأولى لرهبنته، ونضج واكتملت صورته مع بداية الألفية الجديدة، وبالرغم من مشاغل الأسقفية التى جاءت متأخرة وتبعات العمل الرعوى التى تطلبها دوره كأسقف، لم ينسى الأنبا إبيفانيوس رؤيته هذه، بل إستمر فى تحويلها من مجرد حلم، إلى عالم الواقع، ليفاجئنا بسفر التكوين كتابًا مطبوعًا، ثم سفر الخروج بعده، وسمعنا أن أسفار أخرى كانت فى طريقها إلى آلات الطباعة.
يجب أن ننظر إلى الأعمال الفكرية التى أصدرها نيافة الأنبا إبيفانيوس فى هذا الإطار، يجب ألا نراها سوى قطع ضمن هذا المشروع الأكثر إتساعًا، حتى عمله الموسوعى الضخم فى تحقيق ونشر نصوص أقوال آباء البرية، أو بستان الرهبان كما نعرفه، فهو مجرد قطعة ضمن هذا المشروع.
هذا فيما يخص الأسقف الشهيد وأعماله، أما ما يخصنا نحن الباقين بعده فهو أمر هام خطير، فإن كنا نستحق بالفعل أن ندعى أبناء لهذا الأسقف، فعلينا ألا نسمح بموت هذا المشروع أو إجهاضه قبل إكتماله، فما زالت هناك العديد من النصوص الأساسية تحتاج إلى بحث وتمحيص وتحقيق وترجمة ونشر، وأقل ما فيها هى إكمال الترجمة السبعينية للعهد القديم إلى اللغة العربية، ومن بعدها ترجمة النص العبرى، وفتح باب الدراسات التفسيرية لنصوص العهد القديم بطريقة لا تكتفى بالتأمل الروحى السطحى، ولكن إعادة اكتشاف أعماق الكلمة من خلال البحث اللغوى المقارن.
(2) صاحب منهج علمى:
تتلمذ أبونا الأسقف أنبا إبيفانيوس فى مدرس دير أبو مقار، الوارث التاريخى لمدسة الإسكندرية اللاهوتية، وتمتع أبونا الأسقف بتواجده فى فترة من أندر الفترات فى تاريخ كنيستنا، عندما سادت الروح العلمية فى طريقة تفكير آباء الدير بقيادة الأب متى المسكين، وهى ذاتها الفترة والمدرسة التى أخرجت للكنيسة العديد من النجوم الساطعة فى دراسات العلوم الكنسية، ومن هذه المدرسة اكتسى الأنبا إبيفانيوس برداء المنهج العلمى فى البحث والدراسة والكتابة والتفكير.
جاء أنبا إبيفانيوس فى مجتمع لا يعرف ولا يمتلك مهارات وقدرات وأدوات تحقيق النصوص القديمة، للأسف شاعت بيننا خلال المئتين سنة الأخيرة موجة نشر غير منضبط لنصوص مشكوك فيها تحت شعار نشر المخطوطات القديمة، وإمتلأت أرفف مكتباتنا بكتب منسوبة إلى قدماء لا نعرف مدى دقتها، وإن كانت مساحة الشك فيها تفوق مساحة الثقة بكثر، وجار أنبا إبيفانيوس ومعه عدد قليل جدا من العلماء ممن نرد وجودهم ليوقظونا، وهم يصرخون، لا يليق ما نفعله بتراثنا، كتب أنبا أبيفانيوس فى تمهيده لكتاب خولاجى الدير الأبيض يقول "دراسة المخطوطات القديمة وتحقيق النصوص، تعتبر علمًا فى حد ذاته، يهدف إلى الحفاظ على التراث الإنسانى بصفة عامة"، جاء يحمل على كتفية عبء المنهج العلمى وأثقاله.
لن أستطرد هنا فى هذه العجالة فى إبراز ملامح المنهج العلمى فى حياة وتفكير الأنبا إبيفانيوس، ولكن سأقدم بسرعة شديدة بعض الملامح التى تعكس هذا المنهج، ومن أهم الملامح التدقيق العلمى فى الكتابة والحديث، ومن مظاهر التدقيق فى تعامله مع نصوص الكتاب المقدس، إهتمامه بالتفاصيل الصغيرة جدا، فعلى سبيل المثال تعودنا عندما نتحدث عن لغة أسفار العهد القديم أن نقول أن هه الأسفار قد كتبت باللغة العبرية بإستثناء سفر دانيال وأجزاء من سفر إستير فقد تمت كتابتها باللغة الآرامية، أما الأنبا إبيفانيوس فعدما اراد أن يتعرض لهذه النقطة قال أن العهد القديم قد كتب بأكمله بالعبرية "ما عدا 268 آية كتبت باللغة الآرامية" ثم حدد أبونا الأسقف مواضعها فى أسفار دانيال، وعزرا، ونجميا، وإرميا" ثم اضاف للقارئ القول "بالإضافة إلى كلمتين وردتا فى سفر التكوين 31: 47" (سفر التكوين، صفحة 5).
لن أضيف أدلة على دقته العلمية، ولدى الكثير، ولكن أدعو القارئ أن يتأمل هذا النموذج الذى ذكرته ليتعرف من خلاله على المنهج العلمى الذى ألزم الأنبا إبيفانيوس نفسه به، وليتخيل كييف قد يكون الأسقف قد عانى ليضع جملتين فى كتابه، وكم قضى من الوقت وبذل من الجهد ليقدم لنا معلومة كاملة لا تقبل الهدم ولا الضحد.
وفى المقابل تمدنا هذه الدقة بالثقة فى دراسات وبحوث ومحاضرات ونظريات نيافة الأنبا إبيفانيوس، وتضعنا فى موضع الثقة الدائمة، فنسامع إليه ونحن واثقين فى مقولاته وفرضياته العلمية، وهذه جميعها أمور إفتقدناها من سنوات طويلة سواء فى مجتمعنا المصرى، أو دوائرنا الكنسية، وليس هذا فقط، بل لنسعى لتتحول كمهجية العمل العلمى الذى إتبعه أبينا الأسقف، وقدمه كنموذج إلى طريقة بحث وأسلوب حياة، لو تبعناه لأحدثنا ثورة كاملة فى مجتمعنا وكنيستنا وخدمتنا.
(3) أب لجيل قادم:
هل نؤمن بالاستنساخ العلمى ونوافق عليه؟ لو كنا نفعل لرجونا أن نستنسخ من شخصية الأنبا إبيفانيوس العديد من الأشخاص، ولكن هذا خيال لا أكثر.
أما الأنبا إيفانيوس فأعتقد أنه كان يخطط لشيئ مثلا هذا، وبدأه بالفعل، كان يحلم بجيل جديد من الباحثين الأقباط، جيل يحلم نفس أحلامه، ويتبع جاهدًا منهاجه، ويتألم ذات آلامه، لينتج مثلما أنتج، لذا إستثمر أسقفنا الحبيب الكثير من الوقت والجهد فى البحث عن النفوس المستعدة، وانتقائهم، وتشجيعم ومتابعتهم، والعمل على بنائهم الروحى والعلمى، ودفهم دفعًا للتقدم لحمل النير.
لا يجب على أن أتحدث وحيدًا عن هذا الجانب، فهناك العشرات، إن لم تكن المئات من الشهادات الحية التى يمكن أنن تحدث وتخبرنا عما فعله مع كل منهم أسقفنا الحبيب، منذ أسابيع قليلة قابلت أحد الشباب، أو بالأدق الفتية، فلا أعتقد أنه قد وصل إلى العشرين من عمره، وحكى لى مقابلته مع الأنبا إبيفانيوس فى أحد مؤتمرات الدراسات الآبائية، وكيف عامله الأسقف العظيم، وكيف كاتن ينصت إليه وهو يتحدث وكأنه عالم متخصص، وكيف كان يشجعه ويدفعه إلى مزيد من البحث والدراسة والتعمق، وكيف ساعده على وضع رؤية لحياته يسعى لتحقيقها، بل ناقش معه مشروعاته المستقبلية فى الدراسة والبحث ثم النشر، ثم إستمر الأسقف فى متابعة هذا الصديق الشاب بالاتصالات الرعوية.
لقد اخترت هذا النموذج بالذات، لأنه ليس بباحث معروف، أو شخص قد بدأ بالفعل فى طريق البحث والنشر، ولكننى رأيت فيما فعله الأنبا إبيفانيوس مشروعًا خاصًا، مشروعا لإعداد أشخاص لديهم الإستعداد، والأخذ بأيدى كل منهم لكى يشق طريقه.
وأضيف هنا أننى لاحظت اهتمام الأنبا إبيفانيوس بكل من يرى فيه القدرة والرغبة والاستعداد دون تمييز، كان يشبع ويبنى ويقوى الباحثات والمهتمات من الفتيات بنفس القدر من التشجيع والرعاية التى يقدمها للذكور، بلا تفرقة، رغم أنه نما وترعرع فى الجو العالم الذى نعيشه كلنا ويعتمد بالأساس على التمييز ضد المرأة فى جميع الأمور القيادية فى المجتمع، وفى الكنيسة أيضًا.
أوجه عديدة نحتاج إلى توثيقها بسرعة، وعدم السماح لمثل هذه الأمور أن تختبئ مرة أخرى داخل فقاعات من الزجاج، بل لنحطم جميع الفقاعات، وندع الطيب يفوح وينتشر، ليغير رائحة الجو العام الذى نغيش فيه، ولتتمتع أرواحنا بهذه الطيب المنعش، فهو يحمل لنا من سيده رائحة جميلة جذابه، نحن فى أمس الحاجة إليها، إلى أن يحين الحين، ويرجع فادينا ويردنا إلى رتبتنا الأولى بالكامل.