الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

استدراج الميتافيزيقا إلى المقهى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
ماذا تفعل الفلسفة حينما لا تكون بين يدى رجل كبير فى السن يتحدث بلغة لا يفهمها إلا هو وثلة من الأذكياء الذين يوحون إلى الجميع بأنهم عباقرة فيما غيرهم أناس محدودو الحظ من العقل والفهم والقدرة على التجريد؟
ماذا يفعل الفرد البسيط الذى يرتاد المقاهى ويمشى بين الناس ويعانى أشياء الحياة اليومية؟ ماذا يفعل الفرد الذى كلما أراد التفكير –كما علمته الفلسفة منذ قديم الآماد- وجد من يقول له بماذا يفكر ولم يجد من يعلمه كيف يفكر – حسب التعبير الجميل الشائع للحكيم «كرشنامورتي»-...؟
سنرجئ الإجابة قليلا.
تنويعات
يهدف المرء فى حياته إلى أن يصبح شخصا آخر.. فى العربية الشخص هو البارز الظاهر والماثل أمام غيره.. والمعانى الثلاثة للكلمة تفترض بنية غياب ما، أو تفترض حضورا مجروحا، فالشخص إمكانيتان: بارز وغير بارز، حياة كامنة وحياة ظاهرة شاخصة، ومنه الشَّخص عند الفلاسفة؛ وهو الذاتُ الواعية لكيانها المستقلةُ فى إرادتها، ومنه كذلك الشّخصُ الأخلاقيّ، وهو مَنْ توافَرَت فيه صفاتٌ تؤهِّلُه للمشاركة العقليّة والأخلاقية فى مجتمع إنسانيّ، وعن كل ذلك تنشأ المسئولية الأخلاقية والقانونية والمدنية.. وفى الأصل اللاتينى تحيل لفظة persona على القناع.. وهو معنى يدل فى جملة ما يهدف إليه إلى لعب دور ما.. والحصيلة هى أن المعنيين يجتمعان على وجود مستويين فى الإنسان أحدهما خفى والثانى جلي.. وكيف أن الإنسان حسب التمثل اللغوى (وهو تمثل يعوّل عليه دائما) يظل دائما جوهرا خفيا يهدف صوب التجلي.
فى مرحلة أكثر تقدما يشكل الإنسان جماعة تكتسى الشكل نفسه من الخفاء لتصبح أمامها مهمة لعب دور «اجتماعي» ما هو الشكل الواسع للتجلي: 
تعرض لنا الفلسفة والتجربة البشرية التى ينطق عنها التاريخ مقاربات عديدة مرة بإرساء الأبوة الدينية أين يضل الإنسان خروفا فى قطيع (باللفظ الإنجيلي) ينتظر المخلص (عيسى أو أئمته جيلا بعد جيل) كى يأتيه بالخلاص من عند الله، وهى نظرة ينطق بها القرآن ولو بطريقة أقل مأسسة - إن جاز لنا هذا التعبير- حيث تكون العلاقة بين الفرد المتخفى والخلاص المتكشف علاقة مباشرة إلى حد بعيد فى الإسلام (اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك، حسبما يرد فى الحديث القدسي).. وهى نظرة هيمنت حتى على العقول التى كان مشكوكا فى اعتدالها الديني؛ مثل بليز باسكال الذى كان يقول: «لا سبيل صوب السعادة فى هذه الحياة سوى فى الإيمان بأن هنالك حياة أخرى فيما وراء هذه الحياة».. نظرة ستستمر حتى توصل أحد أكبر عقول القرن العشرين إلى الإقرار بأنه «لا خلاص لنا إلا بيد إله» (مارتن هايديغير).
أفضت التجارب البشرية بعد ذلك على عالم اليوم الذى صار يؤمن بضرورة الانتقال من قانون الإبوة إلى قانون الإخوة، ومن فلسفة الهيمنة إلى فلسفة المشاركة، لكى نعيد تحديد الولاية وتولى الأمر فى إطار جماعى تشاركي، حيث تصبح الرعية جزءا من الراعي. عالمنا اليوم يسير صوب قبول الصلات الأفقية بدلا من العمودية.. ويحدث عن هذا التوجه الذى حمل العنوان الديمقراطى قبل أن يعدد عناوينه (لأن الديمقراطية عامة ما تعنى الشيء ونقيضه) أن واجب التفكير الذى كان العالم القديم يربطه بالنخب فقط، يصبح مسئولية جماعية، ومن هنا يمكننا فهم النبوءات المبكرة فى القرن العشرين لهنرى برغسون وهو يقول: «لابد من إخراج الفلسفة من المدرسة لتقريبها من الحياة»، لكى يأتى جان بول سارتر قائلا: «لا بد من استدراج الميتافيزيقا إلى المقاهي»، مع ملاحظة أن سارتر يقول المقاهى لا الشوارع، فالمقهى يحقق الشرط الجغرافى للتعلم ولممارسة فعل التفكير (قار، شامل، حميمي، واضح الحدود، يقابل فيه الناس بعضهم بعضا، فيه إمكانية التفرس فى القناع لكشف ومنح الجوهر الذى خلفه فرصة التكشف.. أى أن المقهى هو المسرح الأقرب إلى الحياة، حيث نلعب دورا ولا نظل فى مرحلة التعلم التى لا تمنح المدرسة سواها.. فالمدرسة مؤسسة أبوية مهيمنة والمسرح فضاء أخوى تشاركي). 
السؤال المطروح فى هذه الترسيمة السارترية هو التالي: ماذا نفعل بالفيلسوف؟ وهل سيظل هو صانع الرأى العام؟ ألا يمكن أن يتحول الفيلسوف داخل المقهى الذى هو مؤسسة من مؤسسات الدولة المخادعة إلى خادم من خدم الشمولية؟ ألا يخشى على هامش هيمنة الفعل الفلسفى الحى الذى يحدث داخل المقهى ألا يبقى من الفلسفة إلا الجهاز الاصطلاحى النخبوي؟ 
قد يكون الفيلسوف حينها نادلا فلا يقدم لرواد المقهى سوى ما يبحثون عنه فيقترب من مقدم برامج التليفزيون أكثر من اقترابه من المدرس الأكاديمي، وقد يكون صاحب المقهى أو المحاسب الذى يقف فى المحسب لكى يتقاضى أجر الفلسفة ويضمن مدخولا فلسفيا كافيا لسد رمق ما...رمق العقل أم رمق القلب؟
من هو الفيلسوف وماذا يفعل حينما تستدرج الفلسفة إلى المقاهي؟
الواقع هو أن الفيلسوف قد غير مهامه وبدل جلده عدة مرات.
سوف يعانى نيتشه من الطابع الرمزي/الإحالي/المركب/المخاتل/الاستعارى للحياة المعاصرة.. وسيجعل أنموذجه الفنى الكبير هو المسرح الكلاسيكى فى فرنسا الذى يتسم بالتنظيم والعقلانية وما يسميه «الوضوح الفرنسى الجميل»...
وسيعلمنا جيل دولوز البحث عن الجدوى من كل خطاب فلسفى قائلا: «إذا بدت لك الفلسفة بلا طائل فخير لك أن تهجرها...».
وسيتراوح التعريف المتكرر للفلسفة إجمالا بين فكرتين اثنتين: تصور مونتين حول «كون الفلسفة آراء معقدة»، وتصور جيل دولوز الذى يرى فيها إمكانية إبداع مفاهيم جديدة باستمرار....
زبدة القول:
إذا كان الإنسان أكثر ابتهاجا فى المقهى منه فى المدرسة التى تنتهى إلى أن تصبح مكانا مانعا للتعلم، فإن النشاط الفلسفى أيضا سيصبح فى هذا القرن الأخير أكثر ابتهاجا، وهذه من الحسنات المحسوبة للعصر الحالى الذى يغلب علينا تصويره بكل الأشكال السلبية الممكنة.
فى جولة فلسفية سريعة سنجد أشخاصا من قبيل ميشال اونفرى يقول فى صدى واضح لشوبنهاور بأنه «فيلسوف مبتهج لا ينتظر خيرا من أحد»...وسنجد كليمون روسيل يصر على: «حبور الحياة التى هى فرصة فى حد ذاتها... لا حبور فرص الحياة العابرة».. وسيقول لنا شيخ  الطريقة المبتهجة «أندرى كونت سبونفيل»: « إن كان هنالك خيار بين السعادة والحقيقة فإننا لا نكون فلاسفة إلا إن اخترنا الحقيقة».