الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الكاتب والفنان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يوجد كاتب كبير، ويوجد فنان كبير، ويوجد فرق كبير بينهما، الأول يكتب ما يعرفه، أما الثانى فيكتب بما يعرفه، ونادرا ما يجمع شخص واحد بين الاثنين، وهؤلاء هم الذين أجمعت البشرية على قيمتهم، دستيوفسكى وفوكنر وهمنجواى ونجيب محفوظ وتوماس مان وهيرمان هيسه وماركيز وغيرهم من الذين جلسوا إلى عذابات النفس البشرية وكانوا عطوفين عليها، نلجأ إلى هؤلاء دائما فى اللحظات المرتبكة فى التاريخ، اللحظات التى يلتبس فيها كل شيء، فى اللحظات التى تتأمل فيها الأمور ولا تستطيع أن تكون رأيا فى مسألة كنت تعتقد أنك بذلت عمرك لمعرفتها،.. «فى كل مرة واجهت الصفحة البيضاء، أعود من جديد إلى اكتشاف الأدب بنفسى، وأن الماضى لا ينفعنى فى شىء». تذكرت هذه المقولة للكاتب الأرجنتينى بورخيس، وهو من القليلين الذين أحن إليهم فى الأوقات العصيبة التى أكون فيها خائفًا وغير قادر على مجاراة الأفكار السائدة، أو عاجزًا عن استيعاب ما يدور حولى، رغم كثرة الكلام حول ما يدور، وأشعر بأنه يتحدث نيابة عنى حين يقول: «العالم لسوء الحظ واقعى وأنا لسوء الحظ بورخيس»، هذا الرجل من الذين جمعوا بين الكاتب والفنان.
هو شاعر خاص جدّا وعصىّ، ترك الشعر بعد خروجه من غيبوبة إثر إصابته فى رأسه ليلة عيد الميلاد سنة 1938، وراح يكتب نثرًا يحمله الشعر، ويتجول به فى التاريخ الإنسانى، مع عذابات البشر وبطولاتهم، اخترع كائنات لا يعرفها أحد غيره، تمنى لو عاين بنفسه أماكن ألف ليلة، ومن القلائل الذين كتبت عنهم كثيرا وأستمتع وأنا قريب من أعماله، وكل فترة يظهر عنه كتب تضىء مسيرته.
عاش فى مكتبة الإسكندرية قبل قرون، وصادق ابن رشد والمعرى فى رحلته الطويلة، هو لا يعترف بأى تاريخ إلا تاريخ القراءة، القراءة التى جعلته يفقد بصره، وعين بعدها مديرًا لمكتبة بيونس أيرس الوطنية، وعاد إلى الشعر بقصيدة يحمد الله فيها لأنه «منحه الكتب والعمى بلمسة واحدة»، حياة بورخيس (1899 - 1986) وآراؤه لا تقل غنى عن أعماله.
ولحسن حظ قراء العربية وجود مترجمين موهوبين يعرفون قدر الرجل مثل السوريين صالح علمانى وعابد إسماعيل، ينقلون أولًا بأول ما يخرج عنه بالإسبانية والإنجليزية، كان يتعامل مع نفسه كفارس من القرن التاسع عشر، وأعلن ذات مرة أنه سينتحر، وحدد موعدًا بعد تكريم ميتران له فى فرنسا ومنحه أعلى وسام وعندما سأله الصحفيون بعد مرور اليوم المحدد: لماذا كذبت؟ أجاب: قد أكون انتحرت بالفعل، وربما يكون الذى أمامكم بورخيس آخر، فى أواخر أيامه أصيب بسرطان الكبد، فقرر أن ينهى حياته فى جنيف التى عاش فيها صباه (عندما كان يعالج فيها والده من ضعف النظر)، حتى لا يتحول موته فى الأرجنتين إلى حدث وطنى، وهو فى انتظار الموت قرر أن يتعلم اللغة العربية، كما حكت زوجته ماريا كوداما، وعاش أيامه الأخيرة مع مدرس مصرى شاب (لم يذكروا اسمه) قرأ أعماله بالعربية، ولم يصدق نفسه عندما اكتشف أن صاحب «المرايا والمتاهات» وصاحب «الألف» تلميذه، وقضى معه شهورًا تصفها الزوجة بأنها كانت مبهجة، يكتب المصرى على كف الرجل الكبير الأعمى الحروف العربية لكى يمسك بها.
عشت مؤخرا مع بورخيس وحكاياته وشعره، وكأننى أتعرف عليه للمرة الأولى، وقرأت له قصة لم تمر علىّ من قبل، تحكى عن حاكم أمر مجموعة من المساجين برسم خريطة لإمبراطوريته، أرادها دقيقة وتفصيلية إلى أبعد حد، وكان له ذلك، لدرجة أنها مطابقة للأصل فى الحجم والتفاصيل، حتى راح الناس يعيشون بالخريطة وعليها وكأنهم فى مدنهم، ويوم انهارت الإمبراطورية انهارت الخريطة وضاع إنجاز المساجين، لقد انتهى التوأم المتخيل (الخريطة) مع نهاية الأصل، بعدما اختفت نهائيّا الفوارق بين الأصل والصورة.