الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رمزية الشر ورمزية الخلاص

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انتهينا فى المقال السابق، كيف عمل «ريكور» على اكتشاف الأبعاد الرمزية للأساطير من خلال تحليله لمفهوم «الشر»، وكيف قدم الإنسان اعترافه بالذنب بصورة رمزية يمكن تتبعها بفضل الطقوس المتعددة الخاصة بعملية الاعتراف ذاتها، والتى وضحها لنا تاريخ الأديان، ولا شك أن «الرموز الأولية» توضح – بصورة جلية – البناء القصدى للرمز الذى تتنوع مجالاته من خلال مظاهره المتمثلة فى: «الدنس، الخطيئة، والإثم». ويعتبر «الدنس» رمزًا يؤدى لمن اقترفه عملًا يحمل معنى الشر المتمثل فى المعاناة، ويُعتبر أيضًا تعدٍ على نظام جرى تعريفه على أنه شبكة من الممنوعات. أما رمزية «الخطيئة» فهى علاقة الانفصال بين الإنسان والله بفعل خرق القانون الإلهى، ويأتى «الإثم» كوجه من وجوه الشر؛ وهو يرمز إلى اللحظة الذاتية للخطأ والتى يشعر من خلالها المذنب بأنه متهم ومدان. لكن هذه المظاهر لا يمكن فهمها إلا عن طريق ارتباطها بالأبعاد الثلاثة للرمز، أى ارتباطها بالبُعد الكونى والبُعد الحلمى والبُعد الشعرى.
لقد كان الإنسان يقرأ مقدساته فى عناصر الطبيعة كالشمس، والقمر، والسماء، والمياه والنباتات...إلخ؛ ثم ما لبثت هذه العناصر أن فقدت حدودها الحسية لتصبح مثقلة برموز لا حصر لها. لكن ما معنى أن تصبح هذه العناصر فى الطبيعة رموزًا؟ تصبح هذه العناصر رموزًا عندما تؤدى جميعها إلى اللغة قبل أن تؤدى إلى التفكير، فإذا قلنا مثلًا: «السماء» فهذا يعنى الشىء نفسه إذا قلنا «المقدس» أو «المتعالى»، أى أن ظهور الشىء ودلالاته ينتميان إلى زمن واحد هو زمن الخطاب اللا متناهى، ومن هنا، فالحركة التى نسير معها من رمزية «الدنس» إلى رمزية «الخطيئة» ثم إلى رمزية «الإثم»، ما هى فى الحقيقة إلا ابتعاد تدريجى عن المعنى الكونى للرمزية.
غير أن البُعد الحلمى يبدو أكثر أهمية، حيث نجد – فى هذا البُعد – الوظيفة الكونية للرمزية لدى الإنسانية تتحول إلى الوظيفة السيكولوجية؛ هذه الوظيفة تعبر عن ذاتها فى المفهوم الكهنوتى الذى يجعل المقدس ظاهرًا فى السماء وفى المياه والنباتات والأحجار...إلخ. وما هو كونى وسيكولوجى هما قطبان لصورة التعبيرية عينها، أو كما يقول «ريكور»: «أنا أعبر عن نفسى من خلال تعبيرى عن العالم، هذه التعبيرية المزدوجة (الكونية والسيكولوجية) تجد ما يكملها فى نموذج رمزى آخر وهو نموذج الخيال الشعرى». من هذا المنطلق، يمكن تفسير الوظيفة الرمزية للأسطورة عن طريق السرد، فالأسطورة هى سرد لشكل من أشكال الحياة تم التعبير عنه بكلام حافل بالرموز. ويمثل السرد الأسطورى بنية ثقافية من مجموع البنى المكونة لثقافات العالم عبر تطوره الحضارى، وعبر صيرورته التاريخية. ويذكر «ريكور» أربعة نماذج للسرد الأسطورى الذى يُصور أصل الشر ونهايته.
النموذج الأول: يتمثل بقصة الخلق، بل مأساة الخلق حيث يمتد معنى الشر إلى أصل الأشياء وهو «الكاوس» الذى يتصارع مع فعل الخلق الخاص بالخالق، ومقابل هذه النظرة للأشياء، نجد الخلاص الذى يشبه فعل الخلق نفسه. وتماثل الشر والكاوس، وكذلك تماثل الخلاص والخلق يشكلان السمتين الأساسيتين لهذا النموذج من الأساطير. والنموذج الثانى: يتمثل بعملية السقوط التى أنزلت الإنسان من الجنة إلى الأرض، والتى تتخذ شكل الحدث غير العقلانى لعملية خلق غير منجزة؛ وتعبر الأسطورة الآدمية عن هذا النموذج الذى يلقى الضوء على كثير من جذور الشر الذى يصيب الإنسان. ويعتبر «ريكور» أن قصة السقوط هى القصة الأنثروبولوجية المثلى التى يمكننا أن نرى فيها أصدق تعبير عن مسألة الندم والتوبة. أما النموذج الثالث: فهو النموذج المأسوى الذى استطاع أن يبلغ فى التراجيديا اليونانية أوج ظهوره، ويشير «ريكور» – فى هذا النموذج – إلى البطل المأسوى الذى لا يرتكب الخطأ ومع ذلك فهو مذنب. والنموذج الأخير: هو نموذج الأسطورة المنعزلة التى كان لها تأثير قوى فى الثقافة الغربية، وتعبر هذه الأسطورة عن مصير النفس الآتية من خارج العالم الحسى وضلت سبيلها إلى هذا العالم.
وعلى هذا الأساس يطرح «ريكور» فى كتابه «صراع التأويلات» قضية أساسية هى قضية العلاقة بين تأويل الرموز وضرورة التفكير، حيث رأى إنه «عندما ننظر إلى رمزية الشر على أنها حالة خاصة تعبر عن رمزية دينية لا بد من طرح الوجه المقابل لهذه الرمزية وهى رمزية الخلاص». ولقد طورت فكرة الخلاص تاريخًا موازيًا للتاريخ الذى أدى إلى مفهوم «الدنس» و«الخطيئة» و«الإثم»، وارتكز – هذا التاريخ – على رمزية بدائية تتمثل بالتطهير والتحرر من الإثم وفك الوثاق؛ كذلك بعملية الاسترداد أو الفداء؛ أو كما يقول المفكر الوجودى «كير كجارد» فعل الاستسلام الذى يعبر عن أدق فهم لفعل الاختيار. وعن طريق الاستسلام يعلن الفرد اعتماده الكلى على الله، ويتخلى نهائيًا عن أشياء العالم بشكل كامل؛ ومن ثم يدرك أنه لا يستمد وجوده من العالم ولا من ذاته الخاصة، وإنما يستمده من الله. ولكى يحافظ الفرد على العلاقة المطلقة بالله، عليه أن يتخلى عن العالم؛ بحيث يصبح – بهذا الاستسلام – غريبًا فى عالم التناهى، ومنفصلًا تمامًا عن كل شىء دنيوى. وتُعيدنا رمزية الاسترداد إلى فكرة القوة التى تجعل الإنسان أسيرًا، فيتعين عليه دفع فدية كى يتخلص من الأسر؛ أى يحصل على الخلاص. وتتضح رمزية الخلاص من خلال اختراق أفق الخيال الميتافيزيقى الذى يتم التعبير عنه باللغة المباشرة للتجربة الدينية، ويظهر بمجىء المُخلص؛ الذى يخلق عالمًا جديدًا غير هذا العالم الذى يتم تجاوزه. 
ومجمل القول، إن مسألة الشر كانت وما تزال تمثل تحديًا للإنسان على امتداد التاريخ البشرى، وذلك نظرًا لصلابتها وتشعباتها وتعقيداتها وهيمنتها على الواقع البشرى. فضلًا عن تأثيراتها على المنطلقات الفكرية والتوازنات النفسية والجسدية لهذا الكائن البشرى الذى يجد نفسه أمام مشكلة لا يعلم مصدرها ولا طريقًا إلى الخلاص منها. وقد تعاقبت أجيال من المفكرين والأنبياء والحكماء حاولت التصدى لهذه المسألة، فبقيت على مر الزمان تحد لا مثيل له، وهذا ما يعترف به كبار المفكرين وأحيانًا بكثير من الحسرة، لكن المهم ليس هذا الاعتراف، بل الكيفية التى يتلقى بها هذا التحدى.