الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحقيقة بين الثقافة والادعاء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما تغيب الحقيقة يحل محلها الزيف، ومن ثم يغيب الجمال ويسود القبح وتتسيد المسوخ والمزيفون ويكثر المخادعون.
الحقيقة هى الضمانة الوحيدة التى تعطى الفن والثقافة المكانة الرفيعة التى حظيت بها منذ أن عرف الإنسان الفن والإبداع، وليس غريبا أن تلصق الحقيقة بالفن والجمال.
وبما أن «الجمال هو الحقيقة والحقيقة هى الجمال»، فقد قضى أرسطو حياته وهو يعتقد اعتقادا راسخا أن الحقيقة تحظى بقيمة كبيرة، وأنها هدف فى حد ذاتها، إذ رأى أن «الفلسفة هى العلم الذى يدرس الحقيقة».
الحقيقة كانت تعنى الكثير لأينشتاين أيضا، إذ اعتبر أن البحث عنها أكثر قيمة من امتلاكها. ورأت «روزا لوكسمبيرج» أن من واجب المثقفين على وجه التحديد أن يدرسوا الحقيقة بشموليتها أو لا يدرسونها على الإطلاق، وإذا ما درسوها فعليهم أن يدرسوها بوضوح وصراحة ودون غموض وأن يثقوا ثقة كاملة فى قواها.
هؤلاء وغيرهم كثيرون أولوا الحقيقة أهمية قصوى، ورأوا أنها لو لم تشغل بال المهتمين بالثقافة والفنون، فسيتوقفون تلقائيًا عن لعب أى دور رئيسى فى مجتمعاتهم، وللأسف هو ما تعانيه ثقافتنا التى تعد الحقيقة فيه موضوعا يصلح للأدب التخيلى وليس للدراسة.
الحقيقة وحدها هى التى تمكننا من التمييز بين العمل واللعب، وبين ما يتخذ جوانب الحياة المختلفة على محمل الجد ومن لا يُعيرها التفاتة.
وبما أن القصص هى أفضل الطرق لنتعلم أى شيء، لذلك أود أن أحكى لكم قصة:
يُحكى أن الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران، تلقى عقب انتخابه رئيسا لبلاده بوقت قصير دعوة من مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك لزيارة المملكة المتحدة، فطلب منها ميتران أن يلتقى خلال زيارته بعدد من المثقفين الإنجليز؛ فأجابه المسئولون عن الأمر بأنهم ربما يجدون له كُتابا ولكن ليس مثقفين!
طلب ميتران يدل على أن المثقفين فى فرنسا يتمتعون بمكانة خاصة يمكن إرجاعها إلى عصر الأنوار، إذ إن المثقفين ليسوا رجال معرفة أو علوم وحسب، ولكن مساهمتهم فى قضايا الجدل الذى يخوضه المجتمع هى التى توصلهم إلى مرتبة المثقف المرموقة هذه.
تلك المكانة التى لم يصل لها فولتير عبر مؤلفاته فقط، ولكن من خلال وقوفه بجانب قضايا باسم الفكرة التى كونها عن العدالة.
كذلك التزام فيكتور هوجو السياسى سواء تعلق الأمر بدفاعه عن الجمهورية أو نضاله ضد حكم الإعدام أو تصديه للقضية الاجتماعية لا يجعل منه كاتبا عظيما وحسب، بل أحد عمالقة البانتيون الفرنسى (مقبرة العظماء).
ويرى بول نيزان أن المفكر الذى لا يطابق بين فكره والعمل به يجعل صداقته المعلنة للبشر عقيمة.
ويعتبر بونيفاس أن الرهان دائما على المثقفين، فيما يخص قضايا المجتمع ضرورة لا ينبغى إغفالها إذ يوضحون ويوجهون، ولكن عندما يحلو لبعضهم طلب مكافآت رمزية أو مادية لقاء وصولهم للجمهور، واعتبارا من تلك اللحظة لا يعود هدفهم هو إعلام هذا الجمهور، بل التأثير فيه لصالح بعض الداعمين أو الرعاة (سبونسور)، إنها خيانة جديدة وجوهرية يقوم بها المثقفون، يتحول الوصول إلى الرأى العام بالنسبة لهم إلى وسيلة لتسويق أنفسهم، إنهم يستخدمون الجمهور ولا يضعون أنفسهم فى خدمته.
هنا يكشف بونيفاس أولئك الذين يحاولون بث الرؤى الأحادية عبر كتاباتهم من أجل مصالحهم الشخصية، وأولئك الذين دافعوا عن قضايا باسم الحقيقة وهم يعلمون زيف ما يروجون له، واستخدموا وسائل لا أخلاقية نتج عنها فى النهاية ضحايا فى بلاد كثيرة ومناطق ومجتمعات وأعراق مختلفة مثل البوسنة والعراق وغيرهما، ويظل العالم يتعامل معهم بوصفهم مثقفين، وهم أبعد ما يكونون عن الثقافة، وما تعنيه وأجهل ما يكونون بدور المثقف الذى لا يمانع – إذا كان حقيقيا وصادقا ومخلصا لطبيعة دوره – فى المغامرة لإجلاء الحقائق والدفاع عنها.