الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كنت هناك

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى مثل هذه الأيام من العام الفائت، كنت نازلا من عملى فى «الأهرام» إلى ميدان سليمان باشا، كان يوما حارا، مرت قبل مغربه نسمة شجعتنى على المشى، «خرمت» من خلف القنصلية الإيطالية إلى شارع «ضهر الجمال» ومنه إلى شارع «أبو طالب»، سنوات طويلة كنت ألتقى أصدقاء رائعين فى مقاهى هذا الشارع الذى يصب فى شارع الجلاء، وعلى رأسهم صديقنا الكبير الأستاذ ممدوح أباظة عمدتنا فى بولاق مصر المعروفة ببولاق أبو العلا، اختفت هذه الشوارع مؤخرا بسبب تطوير مثلث ماسبيرو.
رحب بى قهوجى من الحرس القديم، شجعنى ترحابه وذكرياتى مع الشيشة المضبوطة فجلست، لم تكن غير طاولة واحدة يجلس إليها أربعة رجال غرباء على المكان، فى غاية الأناقة، أعمارهم حول الخمسين، «يشيشون» ويحملون حقائب جلدية «سينييه»، خمنت أنهم يعملون فى البنوك أو البورصة أو الخارجية أو شيء من هذا القبيل، جلست فوق الرصيف المواجه لهم، وأذنى مع إذاعة الأغانى التى كانت تبث أغنية ما أعتقد أننى أسمعها للمرة الأولى، وكان «البهوات» صامتين، الصمت الذى أعقب حوارا لم أكن موجودا وهو يدور، فجأة، وقف أحدهم، وقال بصوت عال «كنت هناك»، وأخذ يردد هذه الجملة بعصبية، وأضاف «حرام عليكم، الظلم حرام، الراجل ما عملش حاجة غلط، انتو ما فيش فى قلبكم رحمة؟»، وانحنى ليأخذ حقيبته وهو يقول، «حسبى الله ونعم الوكيل»، التقت عينانا وهو منصرف، ووجه الكلام لى وهو يشير إلى الثلاثة «دى ناس وحشة وربنا هينتقم منهم»، أداء الرجل وصدقه وحدته والدموع المؤجلة فى صوته تركت بداخلى أثرا مشى معى طويلا، كلما مررت من هناك، أو ضاقت بى الدنيا، أو تأملت مصائر بعض من التقيتهم فى الطريق الطويل الذى قطعته أو عملت معهم، ترن فى أذنى «كنت هناك».
مع بداية شتاء 2017 بدأت كتابة نصوص قصيرة عن مشاهد ولحظات كنت شاهدا عليها، فى الصحافة والثقافة والفن والسياسة، كنت أكتب باستمتاع عن تحولات بعض الأصدقاء وخستهم، عن الطمع، عن الذين عوضوا فقر موهبتهم بالمؤامرات وكتابة التقارير والتخصص وقطع عيش الأنقياء وحصارهم، معظم هؤلاء هم الذين يقودون الرأى العام حاليا (وفى كل العهود)، بالطبع تذكرت نبلاء كثيرين صادفتهم فى الطريق، اكتشفت الزحام الذى غمر حياتى رغم الوحدة، كل هذه الأسماء والوجوه والحكايات والأماكن والعلاقات؟.. شىء لا يصدق!، انتهيت من هذه الحالة فى شهر أبريل، الأسبوع الماضى عدت إليها لكى أعدها ككتاب يحمل اسم «كنت هناك».. أصابنى الهلع، هل وصل بى الأمر إلى هذا الحد؟.. كيف استمتع بتجريس الناس؟ المشهد الذى ألهمنى الكتاب أسمى وأرقى، وجدت الكتاب عملا انتقاميا رخيصا، خفت على نفسى وأنا أتصفحه، هل وصلت إلى هذه الدرجة؟ حذفت الكتاب من الكمبيوتر ومن «الفلاشة»، كنت مستمتعا وأنا أفعل هذا، كأننى أزيح جبلا عن صدرى.. لأننى أيضا «كنت هناك».