الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة لايت

حواديت عيال كبرت "15".. عربية الجاز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"اسمعوا.. فكروا معي.. ماذا عساكم تفعلون لو كنتم مكاني حينها؟، وتذكروا أنهم منذ النشأة عمودنا في إناء الخوف، لم يكن متاحا لنا سوى خيارين وحذاري أن نمد أذهاننا إلى غير المألوف، في الاختيار الذي لا نعرفه سيلتهمنا الحرام، وسيؤمرنا الشيطان، وسيطاردنا الأمن، ويلعننا الشيوخ، حتى ألعابنا قبل التلفاز وثورة التكنولوجيا، كانت إما عسكر أو حرامية، أو نطة الإنجليز أو بخوا فيكوا"، وفي الأعياد لم يكن في محال البقالة سوى ذقن وشنب أو مسدس مياه وخرطوش، ولا أنكر أنني كنت محظوظا بعض الشئ بأم قاهرية قذف بها الشوق إلى القرية، وأب أفندي ساقه الزمن أن يتربى في حجر أخواله

مع قرقعة صوت النارجيلة في حوش البيت، ودندنة أمي، دلفت إلى غرفة أبي، حيث وريقات كانت تدسها أمي في جلباب قديم، تعود لفترة وهج عاشتها القرية لشباب كان قد بحث عن خيار ثالث، اعملوا عقولهم وتحرووا من الدقن والمسدس وحققوا انتصارات صغيرة ضاقت بها القرية وإن ظلت باقية في الوجدان، كان من بين هؤلاء الفتية خالي المتمرد.

قلبت في الورق فإذ بي أجد ورقة له مكتوب عليها "أحمد مات"، فردت الورقة بيدي وأخذت أقرأ، أحمد كان موظفا بسيطا يحلم بواقع مغاير، شاعر حتى النخاع يذبح مرتبه كل أول شهر، بأن يشتري لحما يطهيه ويجمع الأطفال، يطعمهم ثم يحفظهم شعره، وذات يوم نشبت نار في منزل أحمد وهرع إليها أهل القرية وكان السبق لأطفاله، فإذ بهم يجدونه يقف وسط دائرة النار وكان قد شكلها بكتبه على هيئة أسطوانة، وقف يردد أشعاره، ويرددها خلفه الأطفال، وكنت تعلمت أن كل المنتحرين يذهبون إلى النار، فاستغفرت الله مما فعله أحمد، حتى أدركت فيما بعد أنني حكمت بما أملك فيما لا أملك ووقعت في فتنة ظاهر الأمر، ولربما تتداوى حروق أحمد وغيره في السماء، وآمنت أن الفرق بين الكثير وبينهم ليس وازعا دينيا ولكن فقط المنتحرون أشجع، وأكثر إدراكا أننا نموت حينما تموت في صدورنا الفكرة.

مسحت دمعتي ودسست الورق كما كان ثم خرجت من باب المنزل لا أعرف لي وجهة، لم يكن هناك ما يأكل وقت الأطفال في الأجازات سوى الشارع.

"دلفت إلى الزراعية وكان بعض الأطفال يجلسون على أجوال القمح العالية، جلست بجوارهم وسط دهشة لأنني لأول مرة أخرج للعب معهم، ورويدا اندمجت وأخذت أحكي لهم عما وقع ضحكنا وكأننا ندرك أننا بحاجة إلى الضحك من حين لآخر، قاطعنا أحدهم موجها حديثه لي، عمرك ركبت حنطور؟ قلت له حنطور؟ لأ محصليش الشرف"، قال واللي يركبك، ، نظرت إليه في صمت.. فواصل خايف.. بصراحة خايف. 

فرد علي إذا انتظر عصام بعد ساعات جاء هذا العصام بعربية الجاز، التي عرفنا صاحبها " قبل أن نعرف "رمسيس" وكانت بالحجز، فصديقنا "عصام" كان يقطع المسافة يوميا إلى المدينة ليملأها وسعيد الحظ من كان يقع عليه الاختيار ليصطحبه معه في هذه الرحلة الممتعة.
فور أن ظهر عصام من بعيد؛ أشار إلي زميلي لأركب معه على "العريش"؛ غير أن أحدهم دفعني على الأرض فسقطت في الوحل وتلطخ جلبابي؛ فبكيت بينما عصام كان قد ترك اللجام لحصانه.

"ربت زميلي على كتفي وهو يقول لي، ما تزعلش هناخدلك حقك، ثم ذهب وعاد بورق وقال لنا: اعملوا الورق ده قراطيس وعبوها تراب.. مع أذان المغرب تحركنا خلفه لا نعرف إلى أين نذهب فقط كان بين الحين والآخر يقول الواد اللي "زقك" ده من الحتة التانية، ولازم الحتة كلها تتربى، وقفنا أمام دار شرفتها مفتوحة، وإذ بزميلي يلقي بأول قرطاس من الشباك ويقول اضرب، انطلقت القراطيس في تتابع كالطلقات حتى خرج هبوبها في وجوهنا، حتى بتنا لا نرى بعضنا البعض، فقط صوت زميلنا : اجروا.. أخذت أجري، ولا التفت إلى الوراء، أسمع دوي صدعة على الأرض وكلمة أه، فتسبقني دقات قلبي وتهرب مني أنفاسي.. حتى دلفت إلى دار عمتي وهناك اختبئت في "عشة الفراخ"، وبين الحين والآخر أخرج لاستطلاع الأمر، فأسمع هرج ومرج فأعود لأقبع بين الدجاج، الذي شعر أنني ديك غريب فاستكان في أحد جوانب العشة، بعد ساعة أو أكثر من آذان العشاء كان فم القرية سكت عن الصرصرة، وتوشح وجهها بالسواد، اقتربت من دارنا وإذ بي أسمع أطيط نعال جدتي، كنت أحفظه وأميزه، كانت ملاذي وصمام الأمان لي من بطش أبي، همست لها: ستي، حركت عصفورة الباب ولفت رأسي بشالها ودخلت بي إلى "القاعة"، قذفتني فوق "المحمة" حتى هدأ روعي وذاب جليد أعصابي من حرارة الفرن، صعدت بجواري وقالت ليه كده يا بني؟ إيه اللي خلاك ترمي قراطيس تراب في دار عمك "الشعيبي" ده كان لسه راجع من "الغيط" وقاعد هو وولاده يتعشوا، ابنه لحق زمايلك ودبهم لما شبعهم.. وقالوا له عليك، ولولا ستر ربنا إني قابلته كان زمانه قال لأبوك، كده مش هينفع من بكرة لازم ترجع تروح الكتاب عند سيدنا الشيخ محمد، قلت لها: ستي هو سيدنا الشيخ محمد ده هو النبي؟ ضحكت ووضعت رجلها على خصري وضمتني إلى صدرها وأخذت تهددني ..

يللا تنام .. يللا تنام.. وللحديث بقية