الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حنا مينة يغادر المستنقع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
خسر الواقع الأدبي والإنساني كاتبا كبيرا وإنسانا عذبا، قضى عمره معذبا، ومكافحا الشقاء بالبحث عن الحياة التي بالغ في محبتها كما في كراهيتها.. محبته لها دفعته للكتابة بحثا عن شكل سوي لها غير الذي اختبره، وكراهيته لها جعلته نادما ندما أبيدا على أنه أتى إليها يوما: ما الذي كان سيخسره العالم لو لم أولد.
مات حنا مينة بعد حياة طويلة عاشها زاهدا في أي شيء وراغبا عن كل شيء، عرفه الجميع راهبا في محراب الكتابة والنضال ضد استعمار الأجانب للأوطان، والحكام الظالمين للشعوب. لم ينشغل يوما بالشهرة أوجمع المال أو التقرب من سلطة أيا كانت، بل كافح لكي يعيش، لكي يكتب، لكي يموت في هدوء ودون صخب.
إنه الكاتب السوري الكبير حنا مينة الذي لا تستطيع أي كتابة أن تُقيم ما سطرت أنامله كما لن يستطيع أحد أن يقول عنه أكثر مما قاله هو عن نفسه:
"أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً. إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في إسكندرونه، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، والتي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل".
عرف حنا مينة البؤس والفقر منذ أن سمع العالم صرخته الأولى في العام 1924فقد كانت أسرته تستعين في تربيته وأخواته الثلاث بالمساعدات التي كانت تمنحها الكنيسة لهكذا أسر:
"طوال أربع سنوات كنت أقوم مع بعض أطفال المدرسة بالخدمة في الكنيسة، نطفئ الشموع، نحمل الأيقونات، وننام أحياناً واقفين، بكلمة، صلّيت بما فيه الكفاية، أنا مطمئن من هذه الناحية. وفي باحة المدرسة والكنيسة كان ثمة قبور يونانية قديمة، وعلى أحدها كان مجلسي في ساعات الضيق والغربة، والجوع في أحيان غير قليلة، على هذا القبر تعلمت أن أحلم بالمدينة الفاضلة قبل أن أعرف اسمها، وبالحب قبل أن أبلغ السن التي يحق فيها لمثلي أن يحب" لم تمر هذه الحياة القاسية مرور الكرام بل تركت أثرها البالغ في كل كتاباته وفي روحه أولا وأخيرا: "كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى. لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس. أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرِضَ علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً من كل مباهج البراءة الأولى. فإن السياسة نقشت صورتها على أظافري بمنقاش الألم، فتعلمت مبكراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً تواقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون. وكان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه، بتمام الكلمة، أمياً، متخلفاً، إلى درجة لا تصدق، لم يكن في حي المستنقع كله، من يقرأ ويكتب، كان سكان هذا الحي، والأحياء المجاورة من المعذبين في الأرض، الباحثين دون جدوى، عن الخلاص، وعن العدالة الاجتماعية التي لا يعرفون اسمها بعد!".
الحياة بكاملها لم تكن بالنسبة لحنا مينة سوى مستنقع سقط فيه كما سقط فيه الإنسان الأول ليختبر الشقاء ويعانيه دون أمل في النجاة منه.
مات حنا مينة.. وها هو البحار المُعذب يغادر المستنقع ربما ترسو سفينته على شاطيء حلم به طويلا.