الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المعتقد الديني القديم والثقافة الإنسانية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
النظرة الفاحصة إلى تاريخ الحضارات تكشف لنا عن ماهية «الثقافة» أو بالأحرى ماهية الثقافة الإنسانية فى أطوارها المتعاقبة. إذ لا وجود لثقافات مختلفة، بل هناك ثقافة واحدة؛ بمعنى أن الاختلاف الذى تبديه الثقافات الإنسانية من خلال معتقداتها أو أديانها (التى تشكل جوهر تميزها) ليس إلا انعكاسًا لحركة الثقافة الواحدة فى تفتحها التدريجي، وإبداعها الدائم، وحركتها عبر الزمان، واختلاف البيئة والمكان. من هذا المنطلق يُعد المعتقد الدينى مكونًا أساسيًا من مكونات الثقافة الإنسانية، إذ ينطوى عادة على عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان؛ وغالبًا ما تُصاغ هذه الأفكار فى شكل طقوس منظمة تعبر عن الخبرة الدينية المباشرة. لذلك، فالمعتقد الدينى هو أول أشكال التعبير عن هذه الخبرة التى خرجت من حيز الانفعال العاطفى إلى حيز التأمل الذهني، كما تعمل الأجيال المتلاحقة على صقله وتطويره. فما من خبر وصلنا عن أهل الديانات القديمة يفيد بأنهم أخذوا معتقداتهم جاهزة عن جهة ما أو شخص بعينه، فشعوب «سومر» و«أكاد» قد تركت لنا مدونات عن معتقداتها وأساطيرها وطقوسها، دون أن تذكر لنا شيئًا عن صدور دياناتها عن كاهن أو عراف. وأسفار الـﭭـيدا Veda السنسكريتية الموغلة فى القدم، مازالت تمارس تأثيرها العميق على الطوائف الهندوسية فى الهند دون أن يعرف أحد مصادرها والتواريخ الدقيقة لتدوينها. ومعتقدات الشعوب البدائية فى أستراليا وغيرها كانت دومًا موجودة بالنسبة لأهلها.
ولا يجوز البحث عن بداية لهذه المعتقدات، لأنها تعكس الحقائق الأزلية التى لا يصح مناقشتها؛ فإذا كان لابد من تصور بداية، فإن هذه البداية تُوضع فى الأزمنة الأسطورية الأولى أو الأزمنة المقدسة التى رافقت ظهور الجماعات الأولى. وهذا يقودنا إلى إقرار حقيقة مهمة، وهى أن قيام مؤسسات دينية هى ظاهرة حديثة نسبيًا، ذلك لأن المؤسسة الدينية هى بينة اجتماعية تعبر عن تاريخ الحضارة الإنسانية. فقد عاشت الجماعات البشرية وفقًا لمعتقداتها ومارست طقوسها وقصت أساطيرها لعشرات الألوف من السنين دون مؤسسة تُشرف وتُوجه وتجعل من نفسها السلطة المرجعية العليا.
والمعلومات التى لدينا لا تؤهلنا بالفعل لمتابعة هذه المسيرة الطويلة التى تمتد إلى ما وراء القرن السادس (ق.م). ففى النصف الأول من القرن السادس (ق.م) عاش «زرادشت» وبشر بمعتقد جديد كل الجدة على الثقافة الإيرانية، وفى النصف الثانى من القرن نفسه ظهر «بوذا» فى الهند، و«لاوتسى» فى الصين. وليس من المصادفة أن يتزامن ظهور هؤلاء المفكرين فى الشرق مع ظهور نوع آخر من المفكرين فى الغرب، هم مؤسسو الفلسفات الفردية، فى المناطق ذات الطابع اليونانى فى غرب آسيا الصغرى؛ وفى أرض اليونان نفسها والجزر المتوسطة القريبة منها. ففى أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس (ق.م) ظهرت المدرسة الملطية فى آسيا الصغرى، وفى أواسط القرن السادس ظهر «فيثاغورس» و«هيرقليطس» و«زينوفان» و«بارميندس»، ومع «سقراط» دخلت الفلسفة اليونانية عهدًا جديدًا.
ومن هنا يمكن القول، إن المعتقد الدينى يعبر عن روح الجماعة، فلا يمكن أن يقوم أى فرد من أفراد الجماعة بصياغة معتقد خاص به؛ بما يستدعى ذلك من سلوك وأفعال سوف تتعارض حتمًا مع ما يبادر به الآخرون. كما أن دوام أى معتقد واستمراره يتطلب إيمان عدد كبير من الأفراد به وإلا اندثر وفقد تأثيره حتى فى نفس صاحبه. وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نفهم لماذا يسعى «مؤسسو الأديان» وأصحاب الفلسفات الكبرى إلى التبشير بأفكارهم بين الناس وحثهم على اعتناقها، ذلك لأنهم يجدون فى هذا السعى الضمان الوحيد لمعتقداتهم واستمرارها.