الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمود درويش.. يرى ما يريد

 للشاعر الفلسطيني
للشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان للشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش، طقوسٌ وعادات يومية لا يرغب في أن يخترقها أحد، أهمّها ساعات القراءة والكتابة، وبعد خوضه تجربة الزواج والانفصال مرتين كان يعيش وحيدًا في شقته، مُعتادًا على النوم مبكرًا والاستيقاظ صباحًا، فيبدأ بحلاقة ذقنه والاستحمام ثم تناول القهوة، ثم يلبس أجمل ثيابه وحذاءه، كما لو أنه سيذهب إلى موعد رسمي، ويجلس خلف الطاولة مُنتظرًا إلهام الكتابة "ليقتنص الوحي" حسب تعبيره.
كان يكتب صفحة أو صفحات، وأحيانًا لا يكتب شيئًا، وكان يحب سماع الموسيقى، وغالبًا ما كان يستمع إليها أثناء الكتابة، وكانت لديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية، خاصة لمحمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، ويتابع المسلسلات التاريخية، أما تسليته فكانت في لعب النرد التي ينهمك في أجوائها، فيصرخ أحيانًا، ويغتاظ أخرى، إلا أنه، ورغم كل مُحبّيه، كان يخشى من الموت وحيدًا دون أن يشعر به أحد.
تركت النكبة في ذهن الصبي محمود، ابن قرية البروة الواقعة في الجليل شرق ساحل عكا، أخاديد لا تُنسى في ذاكرته، ظلّ بها وكانت الدافع الأكبر فيما كتب، حتى رحل عن عالمنا قبل عشرة أعوام. لم يكن محمود الطفل قد أتمّ سن السادسة، حتى استيقظ على أصوات انفجارات، وهروب مفاجئ من المنزل الذي اقتربت منه العصابات الصهيونية، أعقبه العدوُ مع أسرته لأكثر من ست وثلاثين ساعة، قضت الأسرة بعضها مُختبئة في المزارع من عصابات الهجانة، ليجد الطفل الصغير نفسه مع آلاف من اللاجئين الفلسطينيين في مخيم جنوب لبنان، بعد أن تعرضوا للاقتلاع من أرضهم، وتدمير مُدنهم وقُراهم.
كان ذلك الحادث الأول الذي أفقده الشعور بالأمان، وكان البساط الذي استوى عليه ليتنقل في أرجاء العالم. روى عن ذلك "كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا، لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل.. وأقيمت على أراضيها موشاف أحيهود، وكيبوتس يسعور.. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسديًّا ولكن بلا أوراق.. صُودرت أراضينا وعشنا لاجئين".
من حينها والصبيّ لا يشغله سوى أن يؤرق مضجع الاحتلال ولو بكلمة، عاش في حيفا بعد انتقال العائلة إلى قرية "الجديدة"، وشبّ هناك وتنامت شهرته داخل المجتمع العربي في الأرض المحتلة بوصفه شاعرًا من صنوف المقاومة. بلغ الفتى الشهرة والتأثير اللذين دفعا شرطة الاحتلال لحصار أي قرية تُقيم له أمسية شعرية، لكنه بقي في حيفا عشر سنوات أنهى فيها دراسته الثانوية، وهناك انتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل في الصحف التي يصدرها الحزب، مثل "الاتحاد"، و"الجديد" التي أصبح فيما بعدُ رئيس تحريرها، وظل ممنوعًا بأوامر الاحتلال من مغادرة حيفا لعشر سنوات فيما يُشبه الإقامة الجبرية، حكى "كنت ممنوعًا من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلًا لتتحقق من وجودي، وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة.. ثم اضطررت إلى الخروج".
حصل درويش على هوية حمراء في البداية، ثم زرقاء لاحقًا، فكانت أشبه ببطاقة إقامة، ولكن سُرعان ما تم اتهامه بالقيام بنشاط مُعادٍ لدولة الاحتلال، فطُورد من قِبل أجهزة أمن الكيان الصهيوني بشكل متواصل، وتم اعتقاله خمس مرات، وبعد سلسلة من الحصار اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، حتى غادر الأراضي المُحتلة إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة بعد فشله في السفر إلى فرنسا؛ روى عن ذلك "حاولت السفر قبلًا إلى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي إلى أرضها في العام 1968، كانت لديّ وثيقة إسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها، الأمن الفرنسي لم يكن مطلوبًا منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية، كيف أحمل وثيقة إسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار إنني فلسطيني، أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني إلى الوطن المحتل".
أصبح درويش طالبًا في معهد العلوم الاجتماعية بالعاصمة الروسية موسكو، وكان اصطدامه بمشكلات الروس يوميًّا جعل فكرة أن موسكو هي فردوس الفقراء تتبخر من ذهنه، ففقَد الفكرة المثالية عن الشيوعية لكنه لم يفقد ثقته بالماركسية، وهكذا ترك العاصمة الحمراء إلى قِبلة الشرق، سافر إلى القاهرة، وهو الأمر الذي اعتبره من أهم الأحداث في حياته الشخصية، ووظّفه الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، والذي كان يرأس تحرير الأهرام آنذاك، في نادي كتّاب الأهرام، حيث التقى عمالقة الأدب المصري نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وعائشة عبدالرحمن، والذين كانوا يتشاركون معه المكتب نفسه، قال "الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية، في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها، ولم يكن هذا القرار سهلًا. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة.. وجدتُ نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرؤها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبًا والأدب المصري، التقيتُ بهؤلاء الكتّاب الذين كنتُ من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين"، وسرعان ما توطدت صداقة درويش مع محفوظ وإدريس، وكان يُنظر إليه باعتباره شاعر المقاومة، وكان من أهم أعماله فيها قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي نُشرت في الأهرام، وصدرت في كتاب "أحبك أو لا أحبك".
في عام 1973 انتقل درويش إلى العاصمة اللبنانية بيروت، والتي عاش فيها حتى عام 1982، وكتب فيها واحدًا من أهم دواوينه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، وعام 1977 وصلت شهرته إلى أوْجِها، حيث تم توزيع أكثر من مليون نسخة من أعماله، في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط، حتى إن قصديته "عابرون في كلام عابر" أثارت نقاشًا حادًّا داخل الكنيست الإسرائيلي، كما أنه عمل رئيسًا لتحرير مجلة "شئون فلسطينية"، وأصبح مديرًا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يؤسس مجلة الكرمل عام 1981، ولكن لسوء حظه أن البلاد التي كان يراها ورشة أفكار، ومختبرًا لتيارات أدبية وفكرية وسياسية تتصارع وتتعايش في وقت واحد اندلعت الحرب؛ حكى "بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل.. كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض أصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم، وأول مَن فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد أن الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت، وانتقل الناس إلى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة".
مع حلول نهايات عام 1982 سافر درويش إلى العاصمة السورية دمشق ليُحيي أمسية كانت مقرَّرة على مدرج جامعة دمشق، والتي لم يتسع مدرجها للجماهير، فاضطرت الجهة المُنظمة لنقل الجمهور إلى مدرج الأسد في سيارات نقل، وفوجئ درويش بأن المدرج والملعب مليئان، فقال أحد الشعراء عبارةً ظلّ درويش يرددها بعد ذلك "والله لو قتلناه وشرحنا أسبابنا للقاضي سنأخذ براءة"، لكنه لم يلبث أن انتقل إلى تونس، حيث قابل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، وبدوره طلب منه أبو عمار مواصلة إصدار جريدة "الكرمل"، فسافر درويش إلى قبرص للحصول على رخصة الجريدة التي كانت تصدر من قبرص فيما كان درويش يُحررها في باريس ويطبعها في نيقوسيا، وكان يعاونه في ذلك الشاعر سليم بركات.
ظل درويش في باريس ما يقرب من عشر سنوات، ولكن في شكل متقطع، فكان يسافر باستمرار، وكان حريصًا على البقاء قريبًا من منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، لكن استقراره في باريس جعله يكتب فيها دواوينه الشهيرة "ورد أقل"، "هي أغنية"، "أحد عشر كوكبًا"، "أرى ما أريد"، "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟"، ونصف قصائد "سرير الغريبة"، كما كتب نصوص "ذاكرة النسيان" وكان هناك متفرّغًا للكتابة، رغم انتخابه عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حيث كتب هُناك أيضًا نص إعلان الدولة الفلسطينية، ونصوصًا كثيرة ومقالًا أسبوعيًّا، وكان احترام جميع الفصائل والمتناحرين داخل القضية الفلسطينية له، جعل عرفات يحاول إقناعه بعد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولّي وزارة الثقافة الفلسطينية، لكن الرد كان بالرفض، مُعللًا رفضه بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن، ثم التفرغ لكتابة الشعر.
عام 1993 أُتيح لدرويش أثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني، أن يقرأ اتفاق أوسلو، وعندها اختلف مع عرفات لأول مرة، وكان رفضه قويًّا، حتى إنه قدّم استقالته من المجلس عندما تم التوقيع على الاتفاقية بالأحرف الأولى، مُبررًا ذلك بأن الاتفاق "ليس عادلًا لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته"، ورغم اعتراضه فإنه بعد توقيع الاتفاقية أصبح في إمكان درويش العودة إلى جزء من وطنه المحتلّ، فاختار الذهاب إلى عمان؛ لأنها قريبة من فلسطين المحتلة، وكان يمضي نصف وقته في رام الله التي أشرف فيها على صدور مجلة "الكرمل"، والنصف الآخر في عمان؛ وهناك كتب "الجدارية"، "حالة حصار"، "لا تعتذر عما فعلت"، "كزهر اللوز أو أبعد"، "في حضرة الغياب"، أثر الفراشة"، والتي كتب معظمها بين عمان ورام الله.