الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حول المصابيح العشرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن مقصدى من محاولة إخراج أكابر التنويريين - الذين كان لهم الأثر الأكبر فى تقويم وإصلاح ما فسد فى حياتهم الثقافية - من دائرة الظل إلى دائرة البحث والدرس المعاصرة فى ثقافة قد خلت من أضرابهم ومن صاروا على شاكلتهم، إلا لكى يقتدى بهم شبيبتنا الذين كفروا بالقدوة وارتابوا فى أصحاب الأقلام وتشككوا فى معارفهم وتهكموا على حججهم ومنطقهم وحكمتهم المستمدة من مشخصاتهم العقدية وانتماءاتهم الوطنية.
نعم أردنا من خلال أحاديثنا عن تلك المصابيح إحياء قيمة الصدق والأمانة العلمية فى جُل ما صنفوه، وقيمة الحب والإخلاص والوفاء للرسائل التى حملتها خطاباتهم ومشروعاتهم التى تنزهت عن الأغراض الشخصية والاتجار بالشعارات الثورية، والأكاذيب التى زيفت وعى الرأى العام وصرفته عن إيجاد الإجابة المناسبة للسؤال المطروح دومًا أمام الأمم والمجتمعات التى تسعى للنهوض ثانية بعد الكبوات والأزمات والانكسارات الكبرى التى ألقت بها فى ركام التخلف حيث الجهل والفساد والتطرف والتعصب والإباحية والعنف، أعنى السؤال الذى لا غنى عنه لنضعه أمام أعيننا قبل أن نشرع فى التخطيط ونبدأ فى التنفيذ ونتخير القيادات ونشرع القوانين (من نحن؟ وماذا نريد؟ ولماذا؟) فالمقطع الأول يرمى إلى تحديد الهوية التى كادت أن تطمس فى ظل عشرات الشعارات الجوفاء، وإذا قال بعضنا إن هذا المقطع لا يضعه إلا البلهاء، لأن الهوية نكتسبها بالمواطنة فنتساءل ثانية ما المواطنة؟ هل هى الارض؟ أم ثقافة المجتمع بما فى ذلك اللغة والعقيدة، أو المصالح المشتركة؟ وهل كل ولاءاتنا وانتماءاتنا وسلوكنا وأقوالنا تعبر عن ذلك؟ وهل نحن مصريون حقًا؟ فلماذا الجحود إذن؟ ولماذا نتصارع انتصارًا لولاإت دونها ونتآمر عليها لانتماءات غيرها؟ وهل نحن فى حاجة لإعادة تنشئة أطفالنا على حبها؟ وأين أولئك القادة الذين يفلحون الأرض لإنبات أزاهير الحب فى قلوب أطفالنا فى مناهجهم الدراسية وإعلامهم وأغانيهم؟ 
أجل نحن فى أزمة -تهيمن على العقل الجمعى-، لأن الولاء لا يكبر إلا بالعطاء، ولا يترسخ إلا بالعدل، ولا يقوى إلا بالحرية، ولما كانت الأم عاجزة عن أن تفى بواجبات الأمومة، فمن العسير أيضًا مطالبة الأبناء بالتفانى فى عشقها وهم على هذا النحو من الشعور بالجوع والجور واليأس من طلوع فجرٍ لغدٍ أفضل. 
ويأتى المقطع الثانى من السؤال (ماذا نريد؟) فهل حقًا لنا إرادة؟ أم نسبح كغيرنا من الأقزام فى أفلاك الكبار الذين يضعون الخطط وينظمون العالم ويقسمون الدول؟ وهل فى مقدورنا الاعتماد على أنفسنا لتحقيق ما نريد؟ وهل نعى معنى وحدة الإرادة؟ وهل اجتماعنا عليها وعيًا، قهرًا، قدرًا؟ وهل لدينا الحنكة لترتيب أولويات ما نريد تبعًا لاحتياجات الواقع؟ وهل سواعدنا تقوى وحدها لتحقيق اختياراتنا ومطامحنا؟ وهل لدينا من العزائم ما يؤهلنا لتحدى الصعوبات فى الداخل والخارج بداية من المتشككين ونهاية بالمتآمرين؟ 
تصرخ الواقعات مؤكدة أننا فى طور الهرج والمرج، وأن منابر «مسيلمة» أعلى صوتًا، وسيوف الخوارج أقوى أثرًا، وأقلام المتلاعبين بالعقول أعلى كعبًا، والحفنة المتبقية من المستنيرين قد أصيب نفر منهم بالخرص، والتزم الآخرون بالسكوت، وانزوى المتبقى منهم خارج المشهد خوفًا من السقوط. 
أما المقطع الثالث فموقعه فى القمة التى لا يصل إليها إلا الأشداء والعقلاء، الذين يمتلكون القدرة على التبرير والإتيان بالحجج والعلل التى تدعم غاية مشروعاتهم وتبرر اختياراتهم. ومن المؤسف أننا نفكر بمنطقً معكوس، فنسارع فى إيجاد الآليات، وتطبيق القرارات، وترديد الشعارات، وإنشاء المؤسسات، دون أن نكلف أنفسنا التفكير فى العلة أو الغاية التى تدفعنا لتنفيذ ما نُؤمر به. 
والأمثلة لا يمكن إغفالها من كثرتها، فعندما نتساءل عن التعليم. نبدأ بكيف نتعلم؟ والصواب. أن نتساءل لماذا نتعلم؟ فهل حاجتنا للتعليم لمحو الجهل؟ أو لسد حاجة المجتمع؟ لأصحاب الدربة والدراية لحل مشكلات واقعية، وهل ما نقدمه من برامج فى المدارس والمعاهد والجامعات وكذا استيراد البرامج والتوسع فى بناء الجامعات الأجنبية والأهلية مطموسة المعالم والمآلات يؤهلنا لبلوغ تلك الغاية المفقودة؟ 
الحق أن ما قدمناه من نماذج أو مصابيح ما زالت خير مثال للإجابة النموذجية عن تلك التساؤلات. ويرجع ذلك إلى أن أولئك المستنيرين كانوا يخططون ويعملون تبعًا لغايات آمنوا بها، وتيقنوا أنها العلاج الأنسب لواقعهم المعيش، فنشروا ثقافة التسامح فى الرأى العام التابع، فحالوا بين انتشار التعصب والفتن الطائفية، وصالحوا بين المعقول والمنقول، وفتحوا أبواب الاجتهاد حتى لا يكون الدين «أفيون» للشعوب أو حجر عثرة أمام التقدم أو سيف ظالم على رقاب أحرار الفكر والاعتقاد. 
وجعلوا الحوار والتثاقف أداة لاختيار الأصلح والأقوى من الخطابات والمشروعات، وآليات عاقلة لدرء الخلاف حول القضايا المطروحة، وأنشأوا الأحزاب السياسية القوية، وجعلوا على رؤوسها أكابر المستنيرين، وأشد المخلصين للوطن، وذلك للعمل من أجل صالح الجمهور من جهة، والحد من استبداد الحاكم إن جار من جهة ثانية، ونشر السلام والمحبة بين طبقات المجتمع من جهة ثالثة. 
أجل أردت إحياء خطابات نسيناها أو تجاهلناها لأنها تفضح: ما نحن فيه من عبثية فى التفكير، وتهافت الرؤى، ورجعية الآراء. فقد برهنت كتابات أولئك المستنيرين على أن معظم القضايا التى نتشدق بطرحها ونتصارع حول الفصل فيها قد وضعها قادة الفكر منذ أكثر من مائة وخمسين عامًا على مائدة النقد والتحليل، وقدموا حلولا لها أقرب إلى الموضوعية والواقعية منها إلى الشطط والخيال. فمن المؤسف أن نجد من بين مثقفينا من يتحدث عن مدى أحقية أهل الكتاب فى بناء الكنائس والمعابد فى دار الإسلام، ومن يتحاور حول جواز وطء الدواب ونكاح الوداع وإرضاع الكبير، ومن يناقش قضية كفر أهل الكتاب وحرمانهم من دخول الجنة، ومن عارض كل الكتابات التى تؤكد أن السياسة الشرعية الإسلامية لا تختلف عن السياسة المدنية إلا إذا هدمت الأخيرة «ثابت عقدى» أو نقدت مقصدًا شرعيًا من مقاصدها. 
ولم يبق لى إلا البحث عن مصابيح على شاكلة ما أوردنا فى حياتنا المعاصرة لنخرجهم من دوائر الظل ونقتفى أثرهم بمنطق الإيقاظ وعقلية النقاد وتسامح المختلفين فى الوسائل والمتفقين فى الغايات.