الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

روايات الفروسية.. "دون كيشوت"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل يمكن استعادة زمن الفروسية المندثر؟ هل يمكن محاربة ما يظهر فى عصرنا من رذائل ونفاق ودعاوى زائفة فى الآداب والقيم والأخلاق؟ هل يمكن إيجاد ذلك الفارس الجوال الذى يحمى المستضعفين ويعاقب المجرمين، ويصحح الأخطاء ويقضى على الجرائم، ويفصل بين المنازعات لصالح العدالة والإنصاف للمظلومين؟ أسئلة كثيرة تدور فى أذهاننا ونحاول إيجاد حلول لها. هذه الأسئلة دارت أيضًا فى ذهن «ميجيل دى ثربانتس» (١٥٤٧–١٦١٦)، المفكر والأديب والمسرحى الإسبانى الشهير صاحب رواية «دون كيشوت» أو «دون كيخوته»، التى اعتبرها النقاد أول رواية حديثة وأمًا لكل رواية عظيمة إلى اليوم، وهى تُعد أيضًا من أفضل الأعمال الروائية المكتوبة فى العالم.
لم يكن «ثربانتس» معروفًا فى الأوساط الأدبية، بل كان جنديًا متقاعدًا يعانى من الضيق المادى – فقد عاش فقيرًا ومات فقيرًا – وله بعض المحاولات غير الناضجة فى كتابة الشعر، والروايات والنقد الأدبى، وقد وضعت هذه الرواية «ثربانتس» على خارطة تاريخ الأدب العالمى جنبًا إلى جنب مع «هوميروس» من خلال عمله المجيد «الإلياذة» و«دانتى» من خلال رائعته «الكوميديا الإلهية»، و«جيته» من خلال بحثه عن المبدأ الإنسانى فى مسرحية «فاوست»، و«شكسبير» من خلال إبداعه الفكرى «هاملت».
إن الهدف الأساسى من تأليف هذه الرواية، هو السخرية من قصص الفروسية التى انتشرت انتشارًا واسعًا فى إسبانيا فى القرن السادس عشر، وكان لها ضحاياها، وقد أشار «ثربانتس» إلى كراهيته الشديدة لهذا الفن، حيث كتب يقول فى مستهل روايته: «إن القصد من كتابة هذه الرواية ليس إلا تحطيم ما لكتب الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس»، وكذلك يقول فى نهاية الرواية: «وكان هدفى هو أن أجعل الناس يكرهون القصص المفتعلة الخيالية التى ترويها كتب الفروسية، والتى بدأت تنهار بفضل قصص «دون كيشوت» ولا بد أن تسقط فى النهاية».
ولكن إذا كان «ثربانتس» قد هاجم كتب الفروسية من ناحية النقد الأدبى وكونها تفتقر إلى الحقيقة التاريخية، وتقوم على الخيال الجامح، وتتفنن فى خلق مواقف غير معقولة؛ فإنه فى الواقع تأثر بها تأثرًا كبيرًا حيث انكب على قراءتها على نحو عجيب، وكان يعرفها كلها تقريبًا معرفة وثيقة؛ بل كان يقضى الأيام والليالى فى فك رموز معانيها وفهمها وتعمقها، حتى تسلطت على عقله تسلطًا كبيرًا، لقد رأى «ثربانتس» – من خلال روايته «دون كيشوت» – أنه من الضرورى أن يصبح فارسًا جوالًا وراء المغامرات، وأن يُصلح الأخطاء، وأن يتعرض للأخطار فى كل المناسبات حتى يتغلب عليها.
وخير مثال على ذلك «مغامرة طواحين الهواء» أولى المعارك التى خاضها الفارس لمواجهة عدوه المرتقب، لكنه اصطدم برؤية طواحين الهواء ولم يكن يراها من قبل، فظن أنها مَرَدة ذات أذرع هائلة، فتحمس لمحاربتها، وفي هذه اللحظة قال «دون كيشوت» لحامل سلاحه: «أنظر يا صديقى أمامنا على الأقل ثلاثون من المَرَدة العتاة أو يزيدون، أرى أن أنازلهم وأسلبهم الحياة جميعًا بلا استثناء، وإن هذا لجهد نبيل، وفى سبيل الله إبادة هذه العصابة الشريرة من وجه الأرض». فأجاب صديقه: «تلك التى تُرى هناك ليست مَرَدة، بل طواحين هوائية ما يبدو أنه أذرع ليس إلا أجنحتها التى تديرها الريح، فتدير بدورها حجر الطاحونة». لم يأبه الفارس بتحذيرات خادمه ولا بصرخاته، لكنه مضى شديد الاقتناع من أنهم مَرَدة، على عكس هذا راح يعدو ويقول بصوت عال: «لا تهربى أيتها المخلوقات الجبانة، فإن من يهاجمك ليس إلا فارسًا واحدًا». لكن طواحين الهواء طرحته أرضًا عندما رشق فيها رمحه فرفعته أذرعتها فى الفضاء ودارت به ورمته أرضًا فرضَّت عظامه.
وهكذا يدور «ثربانتس» - من خلال روايته «دون كيشوت» - فى فلك محاولة إيجاد المُثل فى العالم الواقعى، وإنقاذ البشرية من أسر العبودية الطاغى، ولا غرابة فى ذلك، فقد عانى من السجن فترات طويلة فى حياته، وحارب من أجل نيل أوروبا حريتها فى صراعها مع الإمبراطورية العثمانية.