الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمد حسن عبدالله يكتب: عبدالسلام هارون.. متصالح مع العالم

متصالح مع نفسه.. متصالح مع العالم

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين تكتب بدافع "الواجب" فإن الحصول على زاوية حرة يصبح أمرًا صعبًا، هكذا أبدأ بما أفضى به عن العلاّمة المحقق الأستاذ عبد السلام هارون (1909 – 1988)، فله في عنقي دينٌ محبوب، حتى وإن ضاقت المساحة عند نهاية الرحلة التي استمرت نحو عشرين عامًا !! (فهكذا الدنيا تسير، كما قال مولانا شكسبير)، والأستاذ هارون قامة كبيرة في مجال تحقيق عيون التراث العربي بصفة خاصة، ويكفي أن نذكر له أنه محقق "البيان والتبيين" للجاحظ (في أربعة أجزاء)، وكتاب "الحيوان" له أيضا، وفي هذا الكتاب الأخير المكون من ثمانية أجزاء، صنع – قبل زمن الكمبيوتر – فهرسًا ممتدًا متنوعًا، شمل نصف الجزء السابع، والجزء الثامن كاملًا، فهرسًا مفصلًا حسب الموضوع، وحسب المصدر، وحسب العصر، والقبيلة، والشاعر، والمصطلح البلاغي والمصطلح النقدي.. إلخ، ولهذا فإنني كنت – في محاضرات الدراسات العليا – أحرض طلابي على دراسة فهرس عبد السلام هارون وتحليله لمحتوى كتاب الحيوان، لأن في استطاعة هذا الفهرس أن يلهم الباحث بإجراء عشرات الدراسات في فنون البلاغة والنقد والأدب، وعلم النفس، وعلم اللغة.. وتستطيع أن تضيف ما تشاء، دون أن تغادر دائرة كتاب الحيوان !! هذا فضلا عن كتاب "خزانة الأدب" للبغدادي، وفي شواهد هذا الكتاب شوارد لا تحصى عبر (13) مجلدًا، حققها هارون منفردًا !!

لا يجهل متخصص في العلوم العربية موقع عبد السلام هارون، أو جهده، وكنت طالبًا في الكلية التي يشغل فيها درجة أستاذ (النحو)، وكان على خلاف دائم – أو تصورت هذا – مع الأستاذ عباس حسن مؤلف "النحو الوافي" الذي تأخر ظهوره طويلا، ولكنه أغنى المكتبة النحوية بحيث لا يجسر باحث في النحو على إغفال الاعتماد عليه. مهما يكن من أمر تلقيت دروس النحو في الفرقة الثانية على يد تمام حسان، وفي الثالثة على يد عباس حسن، وفي الرابعة على يد عبد السلام هارون، وأشهد أن عباس حسن كان (المجلّي) دون منافس، فقد تعلمت منه ما لم أتعلم على يد سواه، وتقبلت -على يديه- تفاصيل التفاصيل في المسائل النحوية، وهي أكثر مرارة من أكل الحصرم (العنب قبل نضوجه). وكان عباس حسن على قدر من التزمت، يخيف الطلاب، ومع هذا ما كان يخاطب أحدنا نحن طلابه إلا بقوله: "يا حضرة الأستاذ"!!. أما عبد السلام هارون فقد امتحنني في لجنة الشفوي سنة الليسانس، ومنحني درجة "ممتاز" على الرغم من أنه اختبرني في معنى موجود بأحد كتب التراث وهو كلمة (العَلات) فلم أعرفه، فقال لي بأدب رفيع: أبناء العلات هم الإخوة من الأب، وأمهات مختلفات، لأن الأب علّ من هذه، وعلّ من هذه، أي شرب، فحمدت له هذا التصويب وهذه الطريقة الراقية في نقل المعرفة، إلى أن التقينا في الكويت. كنت السابق: مدرسا بثانوية الشويخ، وقد حصلت حديثا على الماجستير، وكان عبد السلام هارون قد انتُدب رئيسا لقسم اللغة العربية بجامعة الكويت (الوليدة)، فلم تمض من الدراسة في عامها الأول غير شهر، حتى كنت (معيدا) تحت رياسته بالقسم، وهكذا تداخلت الخيوط، وبدأنا مرحلة جديدة.
من براعة استهلال عبد السلام هارون في علاقاته الإنسانية أن تعامل معي كصديق أولًا، وابن ثانيًا، وزميل ثالثًا، ولم ينظر إليّ مطلقًا على أنني طالب أو موظف، وهكذا زارني مع السيدة حرمه في بيتي، وتعرّف إلى زوجتي وأطفالي، بل لعب معهم وداعبهم، وكانت السيدة حرمه (وهي من بنات عمومته أو أخواله، لست أحقق، لكنها قريبة العلاّمة الأستاذ محمود شاكر!! أي أن النحو والتراث عائلة واحدة !!) ولم تكن تختلف عنه مودة ورقة. وبلغ الأمر بنا أن أحمل الأستاذ بسيارتي إلى جمعية الشامية – التي يهواها المصريون في الكويت – لنشتري فسيخ شم النسيم، ونأكله في بيته، وكان هو الذي يقوم بإعداده بنفس راضية، ووجه باسم لا أظن أنه عرف الغضب ذات يوم، مهما كانت الأسباب.

ظللنا على هذه الدرجة من الود زمنًا، إلى أن انضم إلى القسم مدرس نحو كان الأستاذ هو الذي منحه الدكتوراه، ورشحه من مصر، فإذا بهذا الوافد الجديد يأخذ نمطًا سلوكيًا غير الذي يتوافق وطبعي الذي درجت عليه، وكان الأستاذ يتقبله برحابة صدر وتقدير، فهذا الجديد كان يبدأ يومه – في القسم – بتقبيل يد عبد السلام هارون، ولم يكن الرجل يمانع، فإذا جاء وقت الانصراف حمل حقيبته عنه، ومضى في أعقابه مصمما على فعل ذلك، مرددا: من علمني حرفًا صرت له عبدًا، ولأني لم أكن أفعله، بل لم أفكر فيه، فقد بدا سلوكي متسمًا بشيء من الجفاف أو الجفاء، مع أنه لم يتغير على الإطلاق، لكن المقارنة ألحقت بي هزيمة لم أعرف كيف أتجنبها، مع هذا أذكر لشيخي الجليل طرائف ونوادر تستحق أن تروى تلطيفًا لهذا الختام المناقض للبدايات.

وأول ما أذكر له من عبارات الحصافة (الشافية) أن حادث النكسة الشهير (يونيه1967) جرى أثناء انعقاد أول امتحان عام في الجامعة الوليدة، وكنت أقوم بالمراقبة، فحين تحققنا من وقائع ما جرى، وعرفنا حجم الخسارة، ضاقت بي الدنيا، حتى أوشكت على الإغماء، وقد تنبه الأستاذ لهارون لهذا فاقبل مهونا عليّ، وقال عبارة حكيمة جدا، أعرف الآن مدى قيمتها، قال: ما حدث هزيمة، وكل الأوطان تتعرض لها. افترض أن لديك حصانًا دخل السباق فخسره، هل تطلق عليه النار؟ أو تضع سكرًا في يدك وتطعمه ليستعد للشوط التالي ؟! نزلت كلماته بردًا وسلامًا، ولو مؤقتًا، ولكن حين تنحى عبد الناصر بعد بضعة أيام اصطففنا – نحن المصريين – أمام مكتب تلغراف منطقة الشرق لأكثر من كيلو متر، لنرسل برقيات تطالب بالعدول عن التنحي. كنا نفعل ونحن نبكي، ولكن عبد السلام هارون ظل في مكتبه ساكنا تمامًا، يرسل أنفاسًا هادئة من البايب المفعم بالتوباك المعطر !! 
... يتبع...