الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة لايت

أحياء يسكنون المقابر.. الحاجة نعمة: "حالتي زي حالة الميتين.. بس الأموات مش بيعانوا زيي"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف- إبراهيم عطا الله وحسن عصام وعزت عبدالرحيم وناريمان خليفة وخلود ماهر
الجميع يحلم بسيارة أحدث موديل وشقة فى منطقة راقية بعيدة عن «الفقراء»، هكذا تُصدر لنا الإعلانات على الشاشات الفضائية، لكن على الجانب الآخر، هُناك من هم الأكثر فقرًا،الذين يحلمون بالعيشة فى المقابر بعد غلاء الإيجارات. إحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء تقدر أعداد الذين يسكنون المقابر بنحو ٥ ملايين مواطن، يعيشون داخل ٢٥ محافظة، فيما بلغ عدد سكان المقابر فى القاهرة الكبرى ١.٦ مليون فى السنوات العشر الأخيرة. ربما يكونون أحياء فى سجلات الحكومة، ولكن هم فى الحقيقة أموات ينتظرون شهادة الوفاة. حالهم كحال أصحاب الكهف؛ «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبً». لا يشعرون بالأمن ولا بالأمان، حياتهم مهددة من اللصوص وتجار المخدرات والمدمنين، يفتقدون إلى الحياة، ولكنهم فى النهاية لا يفقدون الأمل فى الموت الذى هو بمثابه الرحمة التى تخلصهم وترحل بهم إلى العالم الآخر «عالم النجاة».
مقابر الليثى
الحاجة نعمة نطقت وجعا، وقالت: «والله يا بنى لو أموت أحسن»، تعيش الحاجة «نعمة» التى تجاوز عمرها الستين عامًا بمفردها فى حوش إحدى مقابر الإمام الليثي، ليس معها أحد سوى كلبين يعيشان معها وهما من يقومان بحراستها، كما أنهمن يؤنسان وحدتها الصامتة.
واستطردت الحاجة نعمة، أنها ليس بمفردها التى تعيش كمن هم فى القبور، فحالتها تشبه حياة الأموات كثيرًا، لذا هى تشعر بأنها واحدة منهم، وهذا يفقدها الشعور بالوحدة، «فالأموات لا يشعرون بشيء»، ما إن الكلبين اللذان يعيشان معها تصفهما بأنهما أبناؤها.
انتقلت الحاجة «نعمة» للعيش فى القبور بعدما ضاق بها الحال، ولم تعد قادرة على دفع إيجار السكن الذى كانت تعيش فيه هى وزوجها الذى مات منذ عشرة أعوام وتركها بمفردها، فهى لم ترزق بأبناء، كما أنها تعيش على الأموال التى تأتيها من زوار المقابر وفاعلي الخير «ربنا مبينسانيش وولاد الحلال كتر خيرهم».
وتعانى الحاجة نعمة، من «الدوالي» فى كلتا القدمين، وهذا يجعلها قليلة الحركة، لذا تستعين بإحدى السيدات التى تعيش بجوارها فى حوش آخر لتساعدها فى غسل ملابسها وقضاء حوائجها، وفى نهاية الحديث معها كانت أمنيتها الوحيدة هى الموت فلم تعد ترغب فى شيء، وترى الموت راحة لها من تلك الحياة البائسة وتقول «أنا قاعدة فى الحوش مع الأموات لحد ما أندفن معاهم».
حلم يتلاشى
على جانب آخر، توفى زوج «أم أحمد» بعدما ترك لها ولديها الصغار وعانت غلو الحال وارتفاع ثمن إيجار الشقق، فهربت بهما إلى المقابر كى تستطيع توفير ثمن إيجار السكن لتغطى به مصاريف تعليمهما وطعامهما، لتسكن فى أحد الأحواش بمفردها هى وصغيريها.
استطاعت أم أحمد، رغم الصعاب وعيشها مع الأموات أن تربى ولديها، وتزوج الابن الأكبر ليبتعد عنهم ويبدأ حياته مع زوجته ويربى أبناءه بعيدًا عن المقابر التى تربى فيها، يسكن بالإيجار «قانون جديد» وكل يوم فى شقة مختلفة، والابن الثانى يعيش معها فى هذا الحوش ويعمل سائقا على توكوتوك بالإيجار. تحصل أم أحمد على مرتب شهرى «معاش زوجها» الذى يبلغ ٣٢٠ جنيها، لا يكفى لشراء أدوية السكر الذى تعانى منه، ولكن ابنها الأصغر يتكفل بباقى مصاريف العلاج، بالإضافة إلى تحمله ثمن فاتورة المياه والكهرباء التى تتجاوز فى كثير من المرات الـ٢٠٠ جنيه، بالإضافة إلى ثمن الطعام والشراب الذى بالكاد ما يتحصل عليه كل يوم من التوك توك يغطى تكلفة كل هذا، «اللى جاى على قد اللى رايح». رغم كل هذا ما زالت أم أحمد تبحث عن الحياة الكريمة بعيدًا عن المقابر وحياة الأموات، ليس لها بل لابنها الآخر حتى لا يظل ينظر له كل من يعلم أنه يسكن فى المقابر نظرة دونية، وكى يستطيع أن يتزوج ويحيا حياة بعيدًا تلك المأساة.
ولكن سرعان ما يتبدد حلمها ويتلاشى عندما تنظر إلى ما فى يدها وما تحتاجه لتغطى به ثمن علاجها وثمن فاتورة الكهرباء والمياه، فتجد بالكاد يكفى كل تلك التكاليف، «فالعين بصيرة والإيد قصيرة».
مثل الأموات
كما تعيش «أم عبير» بالقرب من حوش الحاجة نعمة، تمامًا مثلها بين الأموات، ولكن حالها يختلف بعض الشيء، فأم عبير لديها بنتها المتزوجة من سائق ميكروباص، وتعمل بنتها سكرتارية فى عيادة خاصة وتعيش مع زوجها وأبنائها فى شقة قانون جديد، ولكن عليها كل يوم أن تترك أبناءها الصغار عند أمها فى المقابر وتذهب إلى عملها هى وزوجها.
وتقول أم عبير، إن عبير بنتى تزوجت منذ ثلاثة عشر عامًا، ولديها ولد وبنت تأتى كل يوم بهما إلى هنا وتتركهما معي، وأقوم برعايتهما حتى تعود وتأخذهما وتذهب إلى بيتها وتعد الطعام، وتنتظر عودة زوجها سائق الميكروباص، فهى تعمل كى تعينه على المعيشة الصعبة.
تبقى أم عبير بمفردها طوال الليل فى المقابر، وتغلق على نفسها باب الحوش جيدًا كى تحمى نفسها من تجار المخدرات والمدمنين واللصوص، ورغم ذلك تعرضت للسرقة أكثر من مرة، آخر مرة من فترة قريبة حيث دخل عليها لص الحوش، وأخذ منها التليفون المحمول الذى تتواصل من خلاله مع بنتها وتطمئن به عليها.
حاولت أم عبير الذهاب مع بنتها للعيش معها، لكن صعوبة الحال تجعل زوج بنتها لا يستطيع دفع ثمن إيجار الشقة التى يعيشون فيها، ويعيدون فى كل مرة إلى المقابر، لذا تمكث أم عبير فى الحوش الذى هو بمثابة الملاذ الأخير لها ولبنتها بعدما يتعثر ببنتها وزوجها الحال ولا يستطيعون دفع ثمن إيجار الشقة، ليصبح الحوش «لها ولبنتها».
وتُضيف أم عبير، أن ابنتها وزوجها تقدما فى مسابقة الإسكان للحصول على شقة، وقام زوج ابنها بدفع قسطين من أقساط الشقة للإسكان، ولكن عجز عن دفع مبلغ التأمين الذى طلب منه، فقام بترك الشقة.
وتتمنى أم عبير، أن تراعى الدولة ظروف الشباب الذين يعانون من ارتفاع تكاليف المعيشة، فحياة بنتها وزوجها وأبنائها المتقلبة يوم فى شقة ذات إيجار مرتفع ومرة فى المقابر بين الأموات، وترى أنها لم تعد تريد شيئا من تلك الحياة سوى حياة كريمة لابنتها وأبنائها، حتى لا يعيشوا مثلما عاشت هى «حية فى السجلات ميتة بين الأموات».