الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السادات.. وزعيم الكاريكاتير!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن بهجت عثمان مجرد رسام كاريكاتير مبدع، ولكنه حضر لعالمنا الصحفى كبركان مواهب هادر.. فنان تشكيلى ورسام وموسيقى وحكاء للكبار والأطفال وباعث للأمل والحلم فى مرحلة توارت فيها الأحلام ووأدت الآمال.
رحل «بهجاتيوس» فى يونيو ٢٠٠١.. وبهجاتيوس قصة لا يعرفها كثيرون.. ففى عصر صلاح حافظ مايسترو الصحافة ورئيس تحرير روزاليوسف الملهم لجيلى ولآخرين أصبحت الحرية طوق عذاب.. يضيق على رقبة صاحبة الجلالة إلى أن تكاد تختنق ثم يفكوه قليلاً للتتنفس الصحافة بعض الهواء ثم يعيدوا تضييقه من جديد.
بهجت هو الذى اخترع مسمى الإمبراطور «بهجاتيوس» ويرمز به لأنور السادات وأعطى لمصر وصفا آخر هو «بهجاتيا» العظمي.. طبعا السادات فطن إلى الملعوب وأجرى اتصالا مع صلاح حافظ ينبه إلى أن بهجت يمارس إسقاطا سياسيا، لكن «أبوصلاح» الذكى قال له ياريس «بهجاتيا العظمي» هى «الجماهيرية الليبية العظمي» وبهجاتيوس هو القذافى لأنه هو الذى يرتدى الزى العسكرى باستمرار وأعلن نفسه إمبراطوراً لأفريقيا.. بلعها السادات ولكن أضمر فى نفسه شرا.. جاءته فرصة ذهبية فى أحداث يناير ١٩٧٧ عند اندلاع انتفاضة الأسعار فأسماها الرئيس الراحل «انتفاضة حرامية» لكن صلاح حافظ أصر على أنها «انتفاضة شعبية».. وفى اجتماع القناطر الشهير الذى عقده الرئيس مع رؤساء تحرير الصحف آنذاك سأل صلاح حافظ «انتفاضة شعبية أم حرامية يا صلاح» ورد المايسترو شعبية يا ريس.. ابتسم الرئيس وقال «للأسف يا بوصلاح حاأغيرك» ودفع ثمن ثباته على كلمته، كما دفعها بعده وقبله صحفيون تركوا أرض الخوف ورفضوا دخول أرض النفاق».
.. قابلته فى الكويت قبل أن يغيبه الموت فى يونيو ٢٠٠٠.. كنا فى ١٩٩٥ أثناء رئاستى لتحرير الجازيت.. كنت أصدر عددا أسبوعيا من ١٦ صفحة عن حكايات من الوطن العربى بالإنجليزية ولم يكن أمامى إلا اثنان ليرسما كاريكاتير الغلاف محمود كحيل رسام الشرق الأوسط وبهجت عثمان.. اخترت الأخير لسابق معرفة وبقايا من نوستالجيا اليسار ولأن كحيل طلب مبلغا هائلاً.. عرضت عليه فكرة الغلاف.. عجبته جدا ولكنه اعتذر.. قال لقد اعتزلت المهنة عندما سادت «ضوضاء التفاهة».. أول مرة أسمع هذا التعبير.. سألته.. قال «الأصوات عالية.. والمعانى غائبة.. الأقلام مرتعشة والحق فى الكهف».. كانت آخر كلمات فلسفية أسمعها منه.
كمثل الشعاع الأخير للشمس.. كمثل تلاشى الصدى المبهج لضحكة طفل رقراقة الصفاء، كمثل ريشة وصلت بخط الضوء إلى نهاية الشفق فطوت نفسها على فكرتها بصمت جليل يليق بالدعاة والمبشرين بغد أفضل، كذلك جاء انسحاب بهجت عثمان من الميدان بغير أن يلقى السلاح.
حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير، حتى الوجع الأخير، ظلت الأحلام تطوف جنبات الصدر الذى ضاق بقلبه الأوسع من الدنيا.. لا، ليست الأحلام بل هى الإرادة على تسليم الراية والأمل للأجيال الجديدة المتروكة فى صحراء القهر والهجانة والشعود بالضآلة، وكأنها تأتى من الفراغ وفيه تضيع ومن بعدها يضيع الطريق.
تافهة هى الألقاب والتوصيفات: من بهجت عثمان؟! رسام كاريكاتور متقاعد، عاش سنواته الأخيرة فى عزلة عن ضوضاء التفاهة، وأخرج نفسه من المطبوعات السياسية التى لم يجد فيها القضية، وتفرع لبث الأمل فى صدور الأطفال.
حاول، بالحكاية والمشاهدة والتجربة، أن يعرفهم بغنى أنفسهم، بعظمة بلادهم، بروعة الشعر الذى أزهر فى صحارى جاهليتهم، بمجد علمائهم الكبار وهم يضيفون إلى الحضارة الإنسانية صفحات من الإنجازات الباهرة. حاول ونجح فى أن يؤسس لحزب الغد.
حتى على فراش مرضه الأخير ظل بهجت عثمان يحاول أن يزرع على طريق الغد وردا وأملا وابتسامات ومقاومة لا تلين.
ولقد ذاب جسد بهجت عثمان لأنه لم يكن يحتاج جسده، وشعت روحه التى ملأ دنيانا فرحا وتحريضا على مقاومة القهر والعنت والغلط والتخلى والهرب من الساحة.
هذا الفنان المبدع الذى ولد فى القاهة وانتشر كالضياء لمدة ستين عاما من العطاء متعدد المجالات، ظلت روحه دائما أعظم من ريشته، وظل إيمانه بالإنسان العربى أعمق من أن يتلاشى بالهزائم، بل كان يستولد جبهة جديدة لا يستحيل فيها مباشرة الإعداد للخروج من ليل الهزيمة ولو بعد بعد بعد غد!
هذا «العربي» بامتياز الذى له مريدون «بهجاتيون» فى المغرب كما فى اليمن، وفى السودان كما فى الخليج العربى من الكويت حتى سلطنة عمان مرورا بالإمارات العربية المتحدة ومطبوعاتها التى أعطى بعضها مبرر الصدور، ومن موريتانيا إلى العراق، ومن الجزائر إلى سوريا.
لم يكن بهجت عثمان قائدا سياسيا، أو زعيما من أى نوع، لكنه ترك أثرا أخطر من مجموع منتحلى صفة «القيادة» فى كل «الجاليات العربية» المتبقية جزرا أو محميات قومية مختلفة أنحاء الوطن العربى تحاول حماية الأمة وقيمها من الاندثار.
وكانت لديه ميزة اكتشاف الصح فى بحر من الغلط، فى الفن التشكيلى كما فى الموسيقي، وفى الكاريكاتير كما فى الأدب.
وسيفتقده جيل من الفتية الذين دربهم ورعى خطواتهم الأولى فى الإبداع الفني، والذين يحاول أن يعوضهم غياب الرواد والاستشهاديين من صلاح جاهين إلى ناجى العلي، مرورا برجائى واللباد وحجازى وجورج وكل من تخرجوا من مدرسة روز اليوسف وإحسان عبدالقدوس ودار الهلال فى عصر أحمد بهاء الدين.
كما سيفتقده جمهور مكافحة الأمية الفنية والسياسية الذين قاتلوا بالسخرية والتحدى «إمبراطورية بهجاتيا العظمي» وكل أنواع الدكتاتورية فى الحكم، وما أكثرها وأعتاها فى الوطن العربي.
يا صديق صلاح حافظ والشرقاوى وأحمد بهاء الدين ولطفى الخولى وكل الأجيال، يا رفيق كل الناس، يا ناثر الفرح والأمل على الطرقات من «١٢ ش محمد خيرى المتفرع من ميدان الباشا بالمنيل» إلى آخر قارئ على نور شمعة فى أعالى الجبال وفى أعماق الصحاري.
«بهجاتيوس» سلاما عليك وأنت تغيب فتغدو أكثر حضورا أيها الذى تسكن صدورنا ومنازلنا ولغتنا اليومية وآمالنا التى سنظل نسعى بعناد المؤمن إلى تحقيقها.