الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

بين الصيف والبحر والأدباء.. قصص وطرائف وإلهامات ثقافية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بين الصيف والبحر والأدباء الكثير من القصص والطرائف والإلهامات الثقافية؛ فيما يبقى الصيف المصري دالا على أريحية واعتدال المصريين وثقافتهم المنتصرة للحياة.
ولئن كانت مصر قد شهدت أمس الأول "الخميس" مع غيرها من الدول العربية ودول النصف الشمالي من الكرة الأرضية "لحظة الانقلاب الصيفي" التي تعني ذروة فصل الصيف، فإن هذا الحدث يكون موضع احتفال في بعض الثقافات حول العالم ومن بينها الثقافة البريطانية.

فاحتفال البريطانيين بأطول نهار في أيام العام يحمل طابعا ثقافيا مميزا في مهرجانات تشمل العاصمة لندن، فيما تنشر الصحف ووسائل الإعلام العديد من الصور الخلابة لاحتفالات الانقلاب الصيفي عند المعالم التاريخية والأثرية ليتحول هذا اليوم إلى مناسبة تجدد العلاقة بين البريطانيين وتراثهم مع حضور لا تخطئه العين لأحدث تقنيات العصر؛ مثل الأجيال الجديدة من الهواتف الذكية، وهي ترصد لحظة غروب الشمس.
والصيف عنوان ملهم لإبداعات ثقافية شتى من بينها الأفلام الوثائقية الرفيعة المستوى مثل الفيلم الأمريكي الجديد "هذا الصيف" والذي أخرجه جوران اولسون ويتطرق ضمن مشاهده الرائعة ونفحاته الرومانسية ورؤيته العميقة للتحولات الثقافية في البلاد.
وها هو صاحب اللقطات الفريدة في الأفلام التسجيلية والروائية المصرية ودارس التاريخ والسينما معا المصور السينمائي سعيد شيمي، يستعيد زمن دور السينما الصيفية أو المكشوفة في ليالي القاهرة فيقول إن دور السينما الصيفية كانت "فسحة الأسر المصرية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي".
وإذا كان سعيد شيمي صاحب الكتب المتعددة في التصوير ومن بينها كتاب "التصوير السينمائي تحت الماء" يعيد للأذهان أن القاهرة كانت مزدحمة بدور السينما الشتوية والصيفية، فعند أجيال من المصريين والعرب لا تحلو ليالي الصيف إلا وسيدة الغناء العربى "أم كلثوم" تشدو بكلمات من رباعيات عمر الخيام: "افق خفيف الظل هذا السحر.. وهاتها صرفا وناغ الوتر.. فما أطال النوم عمرا.. ولا قصر في الأعمار طول السهر".
والأديب النوبلي نجيب محفوظ كان لا يكتب في الصيف لمشاكل صحية تتعلق بحساسية في العين، لكن صاحب "ميرامار" كان يقضي اجازة الصيف في الإسكندرية التي عرفت جلساته الممتعة والحافلة بالطرائف والنقاشات الثقافية مع الأدباء في مقهى فندق سان استيفانو.
وكذلك كان مقهى "بترو" في الإسكندرية يتحول لمنتدى ثقافي في أشهر الصيف رواده هم كبار أدباء مصر وفي مقدمتهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وعبدالرحمن الشرقاوي وعبدالحميد جودة السحار وحسين فوزي، أما الآن فإن ما يمكن وصفه بثقافة المقاهي المفتوحة على نهر الطريق في الهواء الطلق ظاهرة تتجلى بشدة في ليالي الصيف القاهري وإن اختلف المثقفون بشأنها ما بين مؤيد ومعارض.
وبينما تستعد الهيئة المصرية العامة للكتاب لإقامة معارض للكتب في هذا الصيف بالشواطئ والمصايف المختلفة في ربوع مصر ومن بينها معرض للكتاب في مصيف رأس البر اعتبارا من السادس والعشرين من شهر يونيو الجاري وحتى الخامس من شهر يوليو المقبل، فإن الصحافة الثقافية الغربية تنشر مقابلات ممتعة مع مبدعين حول الكتب التى تكتنز للقراءة في الصيف وعلى شطآن البحار.

وعند الروائية كامين محمدي التي ولدت في إيران عام 1969 وانتقلت مع عائلتها للمنفى فى عام 1979 فيما تقيم حاليا بإيطاليا، يبقى الوطن مقترنا في ذاكرة صاحبة كتاب "شجرة السرو" الذي يتناول إيران فى القرن العشرين، مقترنا بليالي الصيف والسمر في ضوء القمر ونسيم الياسمين والابتسامة الهانئة والضحك من أعماق القلب وحكايات الحب.
ومن الطبيعي أن تتوالى الآن طروحات لمثقفين تحمل صيحات تحذير من العدوان على البيئة التي تفضي لظواهر مناخية خطرة كالاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية بصورة غير مسبوقة، وهي ظواهر تتبدى انعكاساتها على الإنسان المعاصر في الصيف على وجه الخصوص، كما يتحدث علماء عن تأثيرها السلبي على الأنهار والبحيرات.
وبقدر ما يشكل البحر ملاذا للبشر الهاربين من حريق الصيف عندما يبلغ ذروته، فإن عالم البحر ملهم دوما للعديد من الكتاب والمبدعين؛ سواء في الغرب أو في الشرق.. وفي كتاب صدر بالإنجليزية في لندن بعنوان: "وجدت قبيلتي"، يبدو البحر هو "المنقذ والمخلص والعزاء" في نظر المؤلفة روث فيتسموريس التي تعاني من صدمة عائلية جراء محنة مرض خطير يهدد زوجها بالموت، فتتجه لمياه البحر الأيرلندي الباردة.
وعبر صفحات الكتاب كسيرة ذاتية اتخذت قالب القصة المؤثرة والحافلة بألوان الوجد والشجن والبحث عن العزاء، كما تقول الناقدة لارا فيجل في صحيفة "الجارديان" البريطانية، يمكن للقارئ أن يشعر بلذة النص وهو يتناول هذا الحوار الأبدي بين الإنسان والبحر.
والمثير للتأمل أن روث فيتسموريس راحت تصطحب صديقتين تعانيان بدورهما من محن عائلية ليلقي الجميع بأنفسهم بين أمواج البحر لغسل الهموم حتى في أيام الشتاء فيما أطلقت على هذه الثلة اسم "نادي السباحة للزوجات المكلومات"!
إنها "القبيلة الجديدة" التي وجدت في البحر نوعا من العلاج للآلام بقدر ما تجمع المياه بين أفراد القبيلة في نوع من "الأنس والونس والألفة" بين بشر يتواصلون معا كما يتواصلون مع البحر ليعود كل منهم لقبيلته الأصلية مزودا بعتاد روحي جديد لمواجهة المحن بجسارة مهما بلغت هذه المحن من مد أليم، كما في حالة روث فيتسموريس التي وجدت زوجها المبدع والمفعم بالحياة والطموحات يتحول فجأة إلى شخص عاجز عن الحركة ولا يمكنه التواصل إلا بحركة عينيه.
والكتاب يتضمن سردا شجيا لهذه الكاتبة وهي تتحدث عن البحر الذي تناجيه وهي بين أمواجه فينتزع الخوف من أعماقها الجريحة ويمنحها جسارة في مواجهة محنة زوج يحتضر وأمسى على شفير الرحيل وكأن البحر في عنفوانه يهب نفسها المتألمة الحياة التي تدحر الموت وتجابه آلام الفقد.

ومن قبل كانت الكاتبة البريطانية ايمي ليبتروت قد أصدرت كتابا بعنوان "التجاوز" في عام 2016 تتحدث فيه عن تجربتها الخاصة للعلاج من محنة إدمان الكحوليات عبر السباحة يوميا في مياه المحيط الأطلنطي قبالة شاطئ بلدتها الاسكتلاندية "اوركني" وقد فاز بجائزة أفضل كتاب بريطاني عن الطبيعة.
أما الكاتبة والناقدة الثقافية البريطانية اوليفيا لينج فقد أصدرت في عام 2011 كتابا بعنوان "إلى النهر"، وتتناول فيه "التواصل بين الإنسان والماء كسبيل لإعادة تمركز الذات الإنسانية المأزومة حول بؤرة جديدة يمكن أن تمنح للبشر عالما مختلفا عن عالمهم الزاخر بالمتاعب".. وهذا العالم الجديد من التواصل الحميم بين البشر والمياه هو أقرب في نظرها للذات الإنسانية.
والصحافة الغربية تحدثت من قبل أيضا عن الكاتبة "جيسيكا لي" التي مضت تسبح بين بحيرات برلين كأفضل وصفة في اعتقادها لعلاج الاكتئاب، فيما كانت الكاتبة والناقدة الأدبية البريطانية الراحلة ريبيكا ويست قد اعتبرت السباحة متعة لا تضاهيها متعة وكتبت عن العناق بين الإنسان والبحر كمعادل للحرية الإنسانية التي تبغض القيود.
ومن الطريف أن بعض النقاد في الصحافة الثقافية البريطانية مثل روس جورج أطلقوا على هذا النوع من السرد الذي يجمع ما بين السيرة الذاتية والبحر وصفا جديدا لنوع أدبي هو:"سير البحر".. والملاحظ في السرد الثقافي الغربي أن أغلب اصحاب هذا النوع من الكتابة من النساء.

غير أن السرد الثقافي العربي في هذا النوع بالمقابل يكاد يكون "ذكوريا" في أغلبه ويتمحور في مصر غالبا حول الإسكندرية عروس البحر المتوسط.. وها هو الكاتب والروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد الذي ولد في أواخر عام 1946 بالإسكندرية يصف مدينته بأنها "ليست مجرد هواء يهب من البحر وإنما هواء أرسله التاريخ العجيب للمدينة".
وإبراهيم عبدالمجيد صاحب ثلاثية الإسكندرية:"لا أحد ينام في الإسكندرية" و"طيور العنبر" و"الإسكندرية في غيمة"، رأى في مقابلة صحفية أن الكتابة عن هذه المدينة "أفق مفتوح تبحر فيه كل السفن الممكنة فهي بلورة سحرية تعطيك من كل ناحية عشرات الصور".
وإذا كان إبراهيم عبدالمجيد الذي كانت ملاعب طفولته في حي كرموز الشعبي السكندري يرى أن لهذه المدينة التي ترمز للتسامح تأثيرها الإبداعي في كتاب وشعراء كبار كنجيب محفوظ وادوار الخراط ولورنس داريل وقسطنطين كفافي، فإن الكاتب والروائي المصري محمد جبريل الذي ولد في السابع عشر من فبراير عام 1938 بالإسكندرية وأنتج عبر مسيرته الإبداعية أكثر من 50 كتابا، يقول:"أتمنى أن أظل أكتب بينما نظراتي تتجه إلى البحر".
ويوضح جبريل أن البحر عنده هو الموطن والطفولة والنشأة والذكريات الملتصقة بلحم الجسد، فيما يستشهد بمقولة فحواها أنه كلما اقترب الإنسان من البحر المتوسط ازداد تشبثه بالحياة وكلما ابتعد عنه هان عليه الموت.
وإذا كانت إسكندرية محمد جبريل تختلف عن اسكندرية ادوار الخراط الذي هام في "ترابها الزعفران"، فهي تختلف أكثر عن صورتها عند البريطانى لورانس داريل صاحب رباعية الإسكندرية التي توصف بعوليس العصر الحديث، وهي العمل الروائى الكبير الذى ظهر أول مرة بالإنجليزية والفرنسية في نهاية الخمسينات وبدايات الستينات من القرن العشرين.

وولد لورانس جورج داريل عام 1912 وتوفى عام 1990 ومع أن  إبداعاته تعددت كروائى وشاعر وكاتب لأدب الرحلات، فإن شهرته ذاعت بفضل رباعية الإسكندرية على وجه التحديد، بينما استمرت الإسكندرية ببحرها تلهم المبدعين في الغرب وتزين عناوين الكتب ومن بينها مجموعة شعرية اختار مؤلفها البريطاني لويس دي بيرنيريه أن يستلهم مددا من روح عاشق يوناني لتلك المدينة المصرية ذات الطابع العالمي وهو الشاعر اليوناني الراحل قسطنطين كفافي.
وكفافي الذي ولد عام 1863 وقضى في عام 1933هو بحق أحد البنائين العظام لصورة الإسكندرية في المخيال الثقافي العالمي وهو المثقف الكبير الذي يعبر بدقة عن مدى التواشج بين الإسكندرية وأثينا ومن ثم فإن القاص والشاعر البريطاني لويس دي بيرنيريه -قد اختار لكتابه الذي صدر بالإنجليزية عنوان:"مخيال الإسكندرية.. قصائد لذكرى كفافي".
ولويس دي بيرنيريه حريص دوما على أن يعرف نفسه بأنه "شاعر قبل وبعد كونه قاصا" موضحا أن الشعر كان منبع إلهامه الروائي ومحركه في مسيرة الحكي وتعد مجموعته الشعرية أول ديوان ينشره وقد نذره لتكريم قسطنطين كفافي ذلك الشاعر اليوناني الذي عاش في الإسكندرية واقترن بها أغلب سنوات العمر واحتواه ثراها.
وفي صحيفة الأوبزرفر البريطانية قالت الناقدة كاتي كيلاواي إن لويس دي بيرنيريه يبدو مفتونا بالشاعر الذي كان مفتونا بدوره بالإسكندرية وبحرها ليخرج القارئ في نهاية المطاف راضيا مرضيا وتلك سمة الإبداع الحق.
ولئن اقترن البحر بأساطير مثل "السندباد" فقد سبق وأن تساءل الباحث الأيرلندى تيم سيفرن حول حكايات السندباد البحرى ورحلاته السبع وما إذا كانت كلها من نسج الخيال أو أنها يمكن أن يكون وراءها لون من ألوان المعرفة الواسعة من أسرار بحار العالم من جانب الإمبراطورية الإسلامية في زمن تلك الحكايات الخالدة في الأدب العالمي.
ولعل حكايات السندباد وعروس البحر القادمة من الشرق كانت حاضرة في ظاهرة غربية جمعت مابين الخيال والطرائف والمكاسب الاقتصادية وتحدثت عنها الصحافة الثقافية الغربية والأمريكية على وجه الخصوص.
إنها "ثقافة عروس البحر" كما تحدثت عنها الصحافة الغربية وتجولت "داخل اقتصاد عروس البحر" كواقع ملموس يتجاوز مشاعر مبهمة كانت تعبر عنها مقولات مثل "نداهة البحر" وها هي كاتبة رصينة وذات اهتمامات عميقة بقضايا السياسة الخارجية في الولايات المتحدة مثل اليزابيث سيجران تقول للقارئ:" ليس من السهولة بمكان أن تقوم بدور عروس البحر وماعليك سوى أن تسأل راشيل سميث التي تقوم بدور كبيرة حوريات الماء كل ليلة في رحاب موئل أنيق لفنون الغطس بمدينة ساكرامنتو" بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
والمثير حقا أن راشيل سميث تقدم هذا العرض مع 12 مرؤوسة لها من عرائس البحر في حوض زجاجي بعمق 40 قدما ومكتظ بالأسماك التي تسبح وسط 7500 جالون من الماء المالح فيما تصف سميث التي بدأت العمل في هذا المكان الغريب منذ مطلع عام 2011 عملها "بالحلم الذي تحول إلى حقيقة".
وفيما تشكل رائعة "موبي ديك" الصادرة عام 1851 للكاتب الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل واحدة من عيون الأدب العالمي التي تدور حول صراع تراجيدي بين الحوت والإنسان، كما قدم الكاتب المصري الراحل صالح مرسي "تنويعة على هذه الفكرة في قصته القرش" التي نشرت في مطلع عام 1967 فإن "اقتصاد عروس البحر المزدهر" يعكس قوة الحلم الإنساني الذي يداعب البعض للحياة تحت الماء أو "سحر النداهة وفتنة نداءات البحر" بينما يبقى "اكتساب هوية عروس البحر والتماهي معها لحد التوحد" شرطا ضروريا لمن يريد التألق في تلك المهنة.
هكذا يتحول البحر إلى بحار للخيال وواقع يكافئ الحالمين بعالم أكثر مرحا وأقل تجهما..إنه "الأزرق الفسيح الذي ينادي الإنسان ويمنحه المتعة في ذروة الصيف" فيما تبقى ليالي الصيف المصري أنشودة للبهجة البريئة وعناق الأنس بين المكان والزمان.