الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

من أين نبدأ؟.. الإسلام يقبل كل نظام اقتصادي صالح للناس

 الإسلام يقبل كل
الإسلام يقبل كل نظام اقتصادى صالح للناس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قليلون هم الذين يعرفون أن كتاب «من أين نبدأ؟» لمؤلفه العالم الأزهرى الفذ الشيخ عبدالمتعال الصعيدى «توفى عام 1966»، كان طرفا ثالثًا «فى المعركة التى دارت عام 1950 بين الأستاذ خالد محمد خالد والشيخ محمد الغزالى، الذى كتب «من هنا نعلم» ردا على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ». 
أهمية كتاب الصعيدى ليست مجرد أهمية تاريخية هدفها معرفة طرف مجهول فى معركة فكرية شهيرة، بل تكمن أهمية هذا الكتاب بالأساس فى قيمته الفكرية والتجديدية. ولن نكون مبالغين إذا قلنا لو أن الدولة أو مختلف الأنظمة السياسية التى تعاقبت على مصر منذ 1950 وحتى الآن قد تنبهت لأهمية الطرح الذى يقدمه «من أين نبدأ؟» عبر تدريسه للطلاب ونشره فى مختلف وسائل الإعلام، لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من إرهاب وعنف ونشر لأفكار مغلوطة، وهذه مجرد أمثلة لأفكار قال بها عالم أزهرى بارز فى مساجلته مع الغزالى وخالد محمد خالد:
أولا: القانون المصرى متوافق مع الشريعة الإسلامية، إن لم يكن نصًا، فهو متفق بالتأويل، والنص الوحيد الذى كان مناقضًا للشريعة هو قانون إباحة البغاء فى أربعينيات القرن الماضى، وعندما احتج شيوخ أزهريون ضده تم إلغاؤه، ما عدا تلك الدساتير المصرية المختلفة لا تناقض الشريعة.
ثانيا: الخلافة ليست هى النظام الإسلامى الوحيد، فكل حكم عادل هو حكم إسلامى، والدولة العثمانية التى كانت تسمى نفسها خلافة لم تكن تتفق مع مبادئ الإسلام.
ثالثا: جنسية المسلم هى وطنه الذى يعيش فيه، وهناك رابطة قلبية تجمع بينه وبينه المسلمين فى مختلف أنحاء العالم. النقاط السابقة مجرد أمثلة لأفكار تجديدية قدمها وعرضها الصعيدى فى «من أين نبدأ؟» الذى تنشره «البوابة» على حلقات طوال شهر رمضان المبارك.

قبول الإسلام لكل نظام صالح:
وإذا نظرنا بعد هذا إلى الشيوعية فى ذاتها وجدنا الناس مختلفين فى أمرها، فمنهم من ينتصر لها، ومنهم من يطعن فيها، ولست أيضًا فى هذا من الفريق المؤيد لها، ولكنى لا أذهب إلى هذا من ناحية أنها عقيدة دينية تخالف الإسلام، لأن الواقع أنها ليست بعقيدة دينية، وإنما هى مذهب اقتصادى كما سيأتي، ولكنه غير صالح لنا، لأن عندنا فى الإسلام ما هو أصلح منه.
وهذا إلى أن الإسلام يمتاز عن غيره من الأديان بأنه لا يجافى العقل، ولهذا أتى دينا مرنا صالحا لكل الشعوب والأفراد، مناسبا لكل زمان ومكان، فلا يمكن أن يضيق بنظام اقتصادى أو تشريعى جديد إذا ثبت صلاحه، ولا يمكن أن يأباه من غير بحث ولا تمحيص، ولا بد فى البحث والتمحيص من أن يكونا فى جو حر بعيد عن الطعن فى العقائد، ليمكن الوصول فيه إلى الحق، ويتأتى فيه ما يجب من الأخذ والرد، والاعتراض والدفع.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نحكم قبل الدخول فى بحث موضوع - الشيوعية والإسلام - بأنه إذا أمكن أنصار الشيوعية أن يثبتوا صلاحيتها للبشرية كلها - وهو بعيد عليهم كما سيأتى - فإن الإسلام لا يأبى اتخاذها أساسا لنظام اقتصادى مطبوع بطابعنا، لأنه فى هذه الحالة إما ألا يكون فيه نص يخالفها، فلا نحتاج إلى شيء من تأويل أو نحوه فى الحكم بعدم مخالفتها للإسلام، وإما أن يكون فيه نص يخالفها فى ظاهره، فيجب فى هذه الحالة تأويله، لأننا نكون بين أمرين: أولهما حكم العقل بصلاحية هذا النظام الاقتصادي، وثانيهما مخالفة ظاهر هذا النص له، ومن المقرر شرعا أنه إذا تعارض دليل العقل ودليل النقل وجب تأويل دليل النقل بما يوافق دليل العقل، وهذا أمر قد نصوا عليه فى الأصول والعقائد، ويجب أن يجرى فى الفروع أيضًا، لأن أمر الأصول والعقائد أدخل فى الدين، فإذا وجب التأويل فيها ليتفق دليل العقل ودليل النقل وجب فى الفروع من باب أولي.


بحث الشيوعية من حيث إنها نظام اقتصادي:
وإذا تقرر هذا فى الإسلام قبل بحث موضوع - الشيوعية والإسلام - وجب أن نأخذ بنظرية فى الشيوعية، فنبحث فيها من حيث إنها نظام اقتصادى فقط، ولا نغالى فى أمرها حتى نجعلها عقيدة كالعقائد الدينية، فنغالى فى تقديسها أو نتعصب عليها قبل الدخول فى بحثها، ويحول هذا دون الوصول إلى الحق فى أمرها، لأن مثل هذا لا يصح أن يؤخذ على أنه بمنزلة العقائد الدينية، لأن هذه العقائد لا تتعلق إلا بذات الله تعالى وصفاته وما إلى ذلك من موضوعها، فإذا خلط بعض الناس فى الشيوعية، فقدسها كما يقدسها أنصارها، أو تعصب عليها وظن فيها خلاف حقيقتها، وأراد أن يجعل منها دينًا وضعيًا محاربًا للأديان السماوية، وجب ألا نؤاخذها بسوء فهمه لها، أن نقف فى بحثها عند حقيقتها الاقتصادية دون ما يضاف بسوء الفهم إليها، لنؤاخذها من هذه الناحية فقط.
وكذلك يجب ألا نؤاخذ الشيوعية بما تعمله الحكومة الروسية المعتنقة لها فى سبيل الدعوة إليها، وفى سبيل حمايتها، لأنها قد تكون نظاما اقتصاديًا صالحًا فى ذاته، ومع هذا يسيء أتباعه فى الدعوة إليه، وفى حمايته من المناوئين له، فلا يصح أن يغطى هذا على محاسنها إذا كانت لها محاسن، بل يجب أن نفقر بين الأمرين، فنؤاخذ الحكومة الروسية على انحرافها فى الدعوة إلى مذهبها الشيوعي، ولا نؤاخذ هذا المذاهب بانحرافها فى الدعوة إليه، وإنما نؤاخذه بما يرجع إليه فى ذاته.


وقد اتهم أخيرا مستر مونيسون وزير خارجية إنجلترا روسيا بالتضييق على حرية الصحافة، فحملت عليه صحف موسكو حملة شديدة، فتحدى جريدة برافدا السوفيتية أن تنشر له مقالا، فأعلنت أنها تقبل ذلك، فبعث إليها بمقال نشرته، وقد جاء فيه: إن الشعب الروسى لو كان حرا حقيقة لعلم أن الغرب يريد السلام، وأن زعماء السوفيت يبذرون بذور الحرب. ثم قال: يقولون لكم إننا من دعاة الحرب، وإننا بتحالفنا مع دول أخرى فى غرب أوروبا ومع الولايات المتحدة نتسلح إلى أقصى حد مستطاع، لنهاجم الاتحاد السوفيتي، وإننا فى تسابق إلى التسلح، وإننا نستعد لحرب جديدة، ولكن هذا ليس حقيقيًا، وليس فيه شيء من الصدق. ثم قال: إنه ليست فى روسيا حرية الكلام ولا الخطابة، ولا حرية الاطلاع على الطريقة التى تعيش فيها بقية شعوب العالم، وهو شيء ضرورة لتفهم كل أمة ما عداها من الأمم الأخري، فإن الجهل الذى يعيش فيه شعب الاتحاد السوفيتى بالعالم الخارجى يخلق أسباب الخوف والريبة والاشتباه فى الدوافع التى تحرك الشعوب الأخري، ولهذا يؤسفنى أنكم لا تستطيعون الاطلاع بصفة كاملة على ما يحدث فى بلادي، بل إن حكومتكم تفسد عمدا وبطرق مصطنعة الإذاعات البريطانية الموجهة إلى روسيا لتشوش عليها، وإنى لأتساءل فى عجب لماذا تفعلون ذلك؟ وما هو الشيء الذى تخشاه حكومتكم؟
وقد ردت عليه جريدة برافدا، فجاء فى ردها عليه: فى الاتحاد السوفيتى لا توجد حرية خطابة أو كلام، ولا حرية صحافة ولا حرية تنظيم الهيئات لأعداء الشعب، ولأصحاب الضياع الواسعة، وللرأسماليين الذين تغلبت عليهم الثورة، ولا يتمتع بهذه الامتيازات أيضًا اللصوص الذين لا يرجى لهم شفاء من داء اللصوصية، أو الجواسيس الذين يبذرون بذور الفتنة والثورة، أو الإرهابيون والقتلة الذين ترسلهم إلى بلادنا إدارات المخابرات الأجنبية، من أمثال المجرمين الذين أطلقوا الرصال على لينين، ولا شك فى أن مستر موريسون يسعى إلى حرية الكلام والخطابة والصحافة والحرية الفردية فى هذا النوع من الناس فقط، ولقد نسى مستر موريسون وهو يعدد حرياته أن يذكر التحرر من الاستغلال، والتحرر من الأزمات الاقتصادية، من البطالة والفقر.
وكان مستر موريسون قد أكد فى مقاله أن الشعب البريطانى لا يريد حربا عالمية ثالثة، وأن محالفات بريطانيا مع الدول الأخرى دفاعية، ومنها المحالفة السوفيتية البريطانية المعقودة فى سنة ١٩٤٢م، وأن حلف شمال الأطلنطى نوع آخر من المحالفات الدفاعية، وأنها ليست موجهة إلى أحد ما عدا المعتدين، فردت عليها جريدة برافدا قائلة، إذا كان هذا صحيحا فلماذا لم يدع الذين ابتكروا حلف الأطلنطى الاتحاد السوفيتى للاشتراك فيه؟ ولماذا عزلوا أنفسهم عن الاتحاد السوفيتي؟ ولماذا عقدوا هذا الحلف وراء ظهر روسيا؟ وفى الخلفاء بعيدا عنها؟
وكان مستر موريسون قد تساءل فى مقاله عن الأسباب التى دفعت الغرب إلى تعزيز قواته المسلحة، ورد على هذا السؤال قائلا: إذا أردتم أن أكون صريحا معكم فإنا نفعل ذلك بسبب السياسة التى يتبعها الاتحاد السوفيتى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد كنا نسعى ونتوقع التعاون معكم فى هيئة الأمم، ولكنكم خيبتم أملنا، وحولتم هذا الأمل إلى شك وريبة فى نيتكم، عندما رفضت حكومتكم التعاون معنا فى مسألة ألمانيا، وفى مسألة الإنعاش الاقتصادى لأوروبا، وقد تأيدت هذه الشكوك عندما رأيناكم تفرضون أنظمة الحكم الشيوعية على دول شرق أوروبا، وتنشئون الكومنفورم، ثم سأل مستر موريسون جريدة برافدا: لماذا تضطر حكومتكم إلى انتهاج سياسة هدفها الوحيد هو إثارة القلاقل والاضطرابات وأسباب الكراهية الدولية بين الأمم؟ ولماذا تنشئون منظمات وهيئات لهذا الغرض؟ فقالت جريدة برافدا: لقد أصبح معلوما أن البريطانيين والأمريكيين لا الروس هم الذين رفضوا ذلك التعاون، فقد كانوا يعلمون علم اليقين أن الروس لن يوافقوا على تحويل غرب ألمانيا إلى قاعدة للاعتداء على الاتحاد السوفيتى فى المستقبل، ولا أساس كذلك للتأكيدات التى يقول فيها مستر موريسون إن الشيوعيين تولوا السلطة فى البلاد الديمقراطية الشعبية بالعنف، وليس صحيحا كذلك أن الكومنفورم مشغول بالدعاية لأعمال القوة والعنف.
ثم تحدث مستر موريسون عن القوات الروسية المسلحة، وقال: إن الدول الغربية سرحت قواتها بعد الحرب، أما روسيا فإنها لم تفعل شيئا من ذلك، ولكننا أدركنا تدريجا أن هناك ختلالا فى التوازن بين القوى الحربية لدى الاتحاد السوفيتى والدول الغربية، وأن هذا الاختلال يعد تهديدا لكياننا، ولهذا يجب أن تزول آثاره، فقرر الغرب أن يكون قويا إلى الحد الذى يجعل المعتدين يدركون بوضوح أن عدوانهم علينا لن ينجح، وما هدفنا الرئيسى من وراء ذلك كله إلا تجنب الحرب. فردت عليه جريدة برافدا قائلة: إن هذا منطق غير سليم، فإن الحكومة السوفيتية أعلنت رسميا من قبل أنها سرحت - ٣٢ - مجموعة من المجندين، وأن جيشها يقرب الآن مما كان عليه فى وقت السلام أى قبل الحرب العالمية الثانية، وأن الجيوش البريطانية والأمريكية على العكس من ذلك ضعف ما كانت عليه قبل الحرب الأخيرة، فهل يحب مستر موريسون ألا يكون فى الاتحاد السوفيتى جيش كاف للدفاع عنه؟ ونحن لا نذكر حادثا واحدا من حوادث التاريخ هاجم فيه الروس أرض بريطانيا، ولكن هذا التاريخ نفسه يشهد بسلسلة طويلة من الأحداث التى هاجم فيها البريطانيون أرض الروس، واستولوا على أجزاء منها.
فهذا الجدال كله ليس فى الشيوعية نفسها، وإنما هو جدال فيما تتخذه الحكومة الروسية فى الدعوة إليها، وفى حمايتها من أعدائها، وقد تكون الحكومة الروسية مصيبة فيما تتخذه من ذلك، وقد تكون مخطئة فيه، ولكن صوابها وخطأها فيه لا يحسب للشيوعية ولا يحسب عليها، لأنها قد تكون صوابا ويخطئ الداعون إليها فى طريق دعوتهم، وقد تكون خطأ ويسلك الداعون إليها طريقًا لا يؤخذ عليهم، ونحن المسلمين لا نمنع الروس أن يأخذوا الشيوعية فى بلادهم ولو كانت خطأ، فإذا أرادوا أن يدعوا إليها فى بلادنا، فعلينا لديننا أن نرد عليهم ما يكون منافيا منها له، لأن الإسلام يبيح الجدال لمخالفيه فى أصوله وفى غيرها مما يخالفوننا فيه، ويأمرنا مع هذا أن نأخذهم فى الجدال بالتى هى أحسن، كما قال تعالى فى الآية - ٤٦ - من سورة العنكبوت «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».


ونحن المسلمين لا يهمنا ما تتخذه حكومة روسيا فى بلادها لحماية الشيوعية من أعدائها، وقد تكون مغالية فى ذلك، وقد نتأثر بمغالاتها فيه من ناحية حقنا فى تبليغ دعوة الإسلام إليها، ولكن هذا الحق ملزم لنا أن نبلغ، وليس ملزما لغيرنا أن يقبل التبليغ، كما لا يلزمه أن يقبل الإسلام، لأنه لا إكراه فى الدين، كما نطق به القرآن الكريم، وقد لجأ الإسلام إلى بعض الوسائل لحماية دعوته فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا حينما رأى اليهود والمنافقين فى المدينة يتآمرون عليه، وينضمون إلى أعدائه فى السر والعلن، ويحاولون بذر بذور الفتنة بين أهله، ويقومون بالتجسس عليهم لأعدائهم، فقام بطرد اليهود من المدينة فريقا بعد فريق، على حسب ما بدا منهم من نقض العهد، وإظهار العداء للمسلمين، وعامل المنافقين فى المدينة معاملة المنبوذين، فلم ينظر إليهم كما نظر إلى المخلصين من أهله، بل أقام عليهم عيونا يراقبون حركاتهم وسكناتهم، ويعملون على كشف مؤامرتهم وفتنهم، والإسلام أكرم من أن يبيح هذا لنفسه فى بلاده، ثم يأخذ على غيره أن يبيح مثله لنفسه، اللهم إلا إذا تغالى فى ذلك داخل بلده أو خارجها، فلنا معشر المسلمين أن نأخذه بالنقد المباح فيما يعمله داخل بلاده، وأن ندافع عن أنفسنا بالوسائل المشروعة فيما يعمله فى بلادنا، إن سلما فسلم، وإن حربا فحرب، على حسب ما يتخذه من الوسائل فى ذلك.
فلندع فى بحث ذلك الموضوع - الشيوعية والإسلام - ما يأخذه بعض المتطرفين من أهلها من الجمع بينها وبين الإلحاد، لأن الإلحاد فى هذه الحالة يكون لصيقا بها، ولا يصح أن يحسب عليها، ولندع ما يتخذ فى حمايتها وفى الدعوة إليها من الوسائل غير المشروعة، لأن الإنصاف يدعونا إلى ألا نأخذها بهذه الوسائل، ولنبحثها بحثا بريئا على أنها مذهب اقتصادى فقط، قد يكون صحيحا، وقد يكون خطأ، وقد يكون مما يقبله الإسلام ولا يرى فيه حرجا، وقد يكون مما لا يقبله الإسلام، لأنه يخالف أصلا من أصوله المعلومة بالضرورة، وهذا أوان الشروع فى ذلك.
الاقتصاد الرأسمالي:
يحب أن ندرس الاقتصاد الرأسمالى قبل أن ندرس الاقتصاد الشيوعي، لأن الاقتصاد الثانى جاء نتيجة للاقتصاد الأول، كما ينشأ الضد عن الضد، فلا يمكن فهم الاقتصاد الشيوعى إلا بعد فهم الاقتصاد الرأسمالي، وكثيرًا ما يكون فهم الضد وسيلة لفهم ضده، كما قيل - وبضدها تتميز الأشياء.
ذكر الأستاذ محمود اللبابيدى فى مجلة رسالة الإسلام - السنة الثالثة: العدد الثالث - أن الاقتصاد الرأسمالى يقوم على أساس حرية الفرد فى أن يعمل ما يروقه من الأعمال التجارية والصناعية وما يتبعها من معاملات، وأن ينتج الأصناف التى يختارها، والكمية التى فى وسعه إنتاجها، وأن يعامل غيره بكل ما يستطيع من حرية، أى أن يقوم على أساس سياسة الباب المفتوح، فى الداخل والخارج، ولهذا أطلقوا عليه أيضًا أمم الاقتصاد الحر، والاقتصاد الفردي، لأنه يعنى بمصلحة الفرد، ولا يعترف بمصلحة المجتمع، وهو يقوم على ثلاثة أصول:
١- المصلحة الشخصية وهى الهدف.
٢- المزاحمة، وهى الوسيلة.
٣- الحرية وهى الشرط.
وقد نودى فيه بالمصلحة الشخصية، لأن الإنسان لا يعمل إذا لم يكن له مصلحة شخصية، وهى الحصول على أرباح تغطى نفقاته ونفقات أسرته، وتضمن له وفرًا لأيام العطل والمرض والشيخوخة، ووفرًا آخر لتجديد ما يبلى من آلات عمله.
ونودى فيه بالمزاحمة لأن الإنسان يسير فى أكثر أعماله بخُلقه أكثر مما يسير بذكائه وعقله، فهو أبدًا خاضع للقوانين النفسية التى يسيطر عليها عالم العواطف، إذ هو فى حاجة دائمًا إلى مهما زمن المنافسة يسوقه نحو العمل والجد والتفوق، ولا وسيلة لذلك إلا إطلاق الإنسان فى جو من المزاحمة والمنافسة الحرة.
ونودى فيه بالحرية، لأن فقدانها أو الحد منها يعارض المسلحة الشخصية ويفقدها قوة المنافسة وقيمتها.
ونحن إذا تتبعنا تاريخ الحركة الاقتصادية فى أوروبا رأينا أنه لما دار دولاب العمل فى جو الرأسمالية الحر وجد الناس أنفسهم طبقات: ملاك أشراف، وربويون، وصناع وأجراء يعملون وينتجون، وآخرون يعملون ولا ينتجون، كرجال الكهنوت وحواشى الملوك، وكانت الحياة تبدو طبيعية نوعا ما، لأنه لا أزمات اقتصادية، ولا مصانع مغلقة، ولا عمال مضربون.
فلما توصل الذكاء البشرى إلى اختراع الآلة البخارية حلت محل العامل، ففاض الإنتاج، وكثر المتعطلون، وأخذ أصحاب الثروات والمصانع يعالجون الإنتاج الفائض تارة بوقفه وإغلاق المصانع وصرف العمال، وتارة بإتلافه، ليظلوا محتفظين بأسعاره العالية، وبهذا تنشأ الأزمات الاقتصادية، ويدب الذعر فى قلوب العمال أولا، لخوفهم على قوتهم، ثم يدب الذعر فى قلوب أصحاب المصانع ثانيًا، لخوفهم من ثورة العمال وضياع ثروتهم الضخمة، ويتبع هذا ارتباك الدولة بين الطائفتين، وخوفها من إفلات زمام الأمور من أيديها، وقد ظلت هذه الأزمات الاقتصادية تتكرر، إلى أن تكدست الثروات الضخمة فى خزائن أفراد قلائل، وإلى أن صار العالم فى قبضة هؤلاء النفر، يوجهون حكوماته الوجهة التى تزيد فى ثروتهم، وتحفظها فى أيديهم، ولو أدى هذا إلى شقاء سواد الشعب وهلاكه جوعا، وبهذا سارت الدول الرأسمالية فى ركاب الثروة، وصار رجالها يقرون السلام، ويعلنون الحرب، تبعًا لأوامر رأس المال، وأصبح السلب المنظم والنهب المقنع تحت أسماء مختلفة من أعمال المصارف والشركات الاستثمارية دستورًا مقدسًا، وحقًا مشروعًا لا جدال فيه، فرأى الناس البؤس والفاقة والمسغبة منيخة بكلاكلها على ملايين من البشر المتعطلين، والأطفال المشردين، والشيوخ العاجزين، وكانت الشيوعية نتيجة لهذا كله، بعد أن تفاقمت ثورات العمال، وقامت حرب فى روسيا بينهم وبين أصحاب رؤوس الأموال، وتمت لهم الغلبة بقيام روسيا السوفيتية التى صارت رمز الاقتصاد الشيوعي.