الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحُكم بعد الولادة "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت تلك الفتاة لا تشبه أحدًا من الفتيات الأخريات القابعات بين حوائطهن عن اليمين واليسار، بل إنها لربما لم تكن تشبه أحدًا أبدًا من هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بأهلها. كانت تنظر عبر الفراغ وتتوق إليه، وفى كل مرّة كانت ترى فيه شيئًا جديدًا، لتتمكن من متابعة الحلم، الذى لم تتمكن ولو لليلة واحدة أن تغفل دون أن تراه بين جفونها، الحريّة.. لم تفهم معنى الكلمة، بل ولم تسمعها منذ ولدت إلا وكانت مريرة بين شفتّى قائلها الذى غالبًا ما يتّهم أحدهم بأنه فجَر لبحثه عنها أو امتلاكها..
ولدت كارلى الجميلة بين تلك الحوائط، وحدها طوال الوقت، يحرسها خلف ذلك الباب الحديدى الموصد بإحكام رجل وامرأة قالا إنهما هما اللذان أتيا بها إلى هذا المكان بعد أن كانت عدما. لطالما سألت نفسها عن السبب، فهما لم يتظاهرا ولو لمرّة بأنهما كانا بحاجة لوجودها من ناحية عاطفية أو حتى اقتصادية، بل إن الأمر بدا لها وكأنهما شعرا بفراغ وملل فى ذلك السجن، فقررا أن يلعبا دور السجّان من باب التغيير والترفيه عن النفس «كما هو متاح لهما»، فأتيا بها ليثبتا لهذا العالم أنّهما أصبحا جديرين بالخروج من الباب الحديد، ليجلسا طوال الوقت على كرسيين خارجه فيحولان بينها وبين العالم، والحرية والحياة.
لاحظت الفتاة، أنها كلما كبرت، كلما ازداد ضيق الفراغات بين كل عمود حديدى وجاره فى ذلك الباب الذى امتلك الرجل الجالس خارجًا مفتاحه. وكلما كبرت كلما زاد اتساع الفراغات بينها وبينهم، فكانت تبعد تدريجيًا بعيدًا عنهم ونحو الشباك، فتزداد وحدتها وحنقها عليهم ويكبر حلمها فى آن واحد.
نظرت إلى السماء عبر القضبان فوجدها لامعة، مليئة بالألوان، عكس الحوائط الرمادية التى لم تلمس غيرها، فسألت: هل يمكنها يومًا أن تلمس السماء بيديها؟ كانت تؤمن قطعًا بالمعجزات. ثم تنظر خلفها إلى كلاهما فلا تجد مفرًّا. سألت أباها ذات يوم، متى سيعطيها مفتاح ذلك الباب، أينتظر لتنضج! فأجابها بأن النساء لا يمتلكن مفاتيح، بل سيأتى أحدهم ذات يوم، ليحمل عنه عبء امتلاك ذلك المفتاح، فيأخذه منه ليستريح هو للأبد من مهمة حراستها. حالما بدأت فى نضوجها، ثارت على الوحدة، خاصةً أنها آمنت إيمانًا قطعيًا، بأن عليها أن تكون بجانب أحدهم؛ لأنها كلما كانت تنظر إلى الخارج رأت العالم كلّه زوجين، عرفت بعقلها الصغير أن حرّيتها ستوجد حالما لا تعود فردًا واحدًا. من الممكن أن يكون مالك المفتاح الجديد أرحم بها منهم، من الممكن أن يفتح لها فيهربا معًا من ذلك السجن المقيت الموحش، فيجريان على الحشائش الخضراء التى تراها خارجًا سويًا، ويضحكان ويرقصان تحت النجوم اللامعة، بإمكانه وحده أن يحررها، فما كان عليها إلّا الانتظار.