الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"التأمين الصحي" يتوجع

 صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عيادات التأمين الصحى.. أوجاع وآلام لا تنتهى داخل جدران مبانٍ خصصت للتخفيف عن المرضى، غير أنها تحولت إلى ما يشبه سلخانة البشر المتوافدين عليها ظنًا منهم أنها الملاذ لهم، لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى منصة شكاوى من سوء المعاملة والإهمال والتجاهل والجلد السميك من الأطباء قبل أطقم التمريض، دون أن تشفع توجعات الأهالى لديهم.

ومن عيادة لأخرى لعل الوضع قد يختلف، لكن مع الأسف الحال متكرر لدى الجميع، فنفس الشكاوى التى يتوجع منها الأهالى فى محافظات الجنوب هى نفسها فى عيادات محافظات الشمال وشرق وغرب، ورغم عشرات بل مئات الشكاوى والتقارير عن نقص الأدوية وسوء المعاملة وغياب الأطباء، لكن دون جدوى. 
رحلة شقاء للمرضى داخل العيادات.. وفى النهاية لم يحضر الطبيب.. وعيادات «أحمد عرابى»: المصاعد معطلة.. والمرضى يصرخون: «بنشترى العلاج من بره».. ومرضى المحافظات يلجأون لـ«قصر العينى» و«العلاج على ما تُفرج».. والمسئولون لـ«الحالات الحرجة»: «اكشفوا بره»
بينما كشفت إحصاءات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء عام٢٠١٧، عن أن عدد المشتركين والمستفيدين من التأمين الصحى فى مصر يبلغ حوالى ٥٠٪ من إجمالى عدد السكان، وأن أعداد المشتركين يتراوح ما بين ٥٤.٦٪ للذكور، و٤٦٪ من الأناث، ونسبة المشتركين بالتأمين الصحى بالقطاع الحكومى حوالى ٩٣٪ من المشتركين، و٥.٨٪ بالقطاع الخاص، إلا أن المعاناة التى يلاقيها كل هؤلاء تثير تساؤلات عديدة حول جدية المسئولين عن هذا القطاع الذى يعد بمثابة «حياة أو موت» بالنسبة لكثيرين.. «البوابة نيوز» قررت فتح الملف وكشف المسكوت عنه داخل عيادات التأمين فى عدد من عيادات القاهرة. 

الوهم فى العيادات الشاملة 
بدأت جولة «البوابة نيوز» من «العيادات الشاملة» التابعة للتأمين الصحى بشارع أحمد عرابى، حيث المبنى من الخارج يكشف مدى الإهمال ومعاناة من يلجأون إليه، فالقمامة تحاصره من كل الجوانب، وسط انتشار الباعة الجائلين، ومن الداخل حيث المرضى المسنين، الذين يضطرون للصعود على السلالم لتعطل المصعد، وكانت أول معاناة تم رصدها خاصة برجل خمسينى اضطر للنزول على السلم، وهو غاضب، قائلًا بصوت عالٍ «حسبى الله ونعم الوكيل.. كل مرة يعذبونا عشان الدواء.. ولازم أشترى من بره بأضعاف الثمن»، وإلى الطابق الثانى، حيث رائحة المراحيض الكريهة تسيطر على المكان بالكامل، ولا يوجد اهتمام بالنظافة نهائيًا، وما يضمه ليس أكثر من صيدلية واحدة لصرف الدواء، وعلى الجانب الآخر الممرضات نائمات داخل المكاتب، والمكاتب الأخرى مغلقة.
تجلس على أحد المقاعد سيدة وزوجها يحاصر الحزن وجهيهما، حيث قال الزوج: «منتظرين من الصبح وفى الآخر مفيش دكتور أطفال.. وقالوا مشى.. ودايمًا فى المعاناة دى بحثًا عن الدكاترة».
بينما قال رجل أربعينى يدعى محمد سيد: «صرف الأدوية نظام فاشل.. وفى الصيدلية قالوا روح دور فى فرع الهرم ممكن تلاقى.. والدكاترة مش ملتزمة بالمواعيد». ثم قالت إحدى السيدات المرضى، تنتظر دورها بالكشف: «نذهب الى العيادات التابعة للتأمين بحثا عن الدواء أو صرف أدوية بديلة.. ومفيش إحساس بالمرضى»، واستطردت: «المسنون يوميًا يصعدون عبر السلالم بحثًا عن الأطباء بين الأدوار.. والأسانسير بايظ علطول.. وملناش إلا ربنا»، وشارك بالحديث رجل يدعى عصام قال: «الغلبان لما بيمرض بيموت.. ومحدش بيحس بينا.. هنفضل نتبهدل طول عمرنا». 
بينما قالت سيدة عجوز: «بنشترى الدواء من أماكن تانيه عشان هنا مفيش.. وحالنا يصعب على الكافر.. محدش بيحس بالغلابة.. كفايا طالعين على السلالم وبنتبهدل»، ووصفت التأمين الصحى بـ«الدمار الصحى»، وقال رجل خمسينى، «أنتظر الطبيب أكثر من ٥ ساعات.. وفى الآخر قالوا مش هيجى النهارده».
أما المرضى الصاعدون السلم، فيسيطر عليهم الغضب قائلين: «ربنا يعين الغلابة اللى مش عارفين يكشفوا عند دكاتره بره.. والتأمين الصحى بيموتهم».

زحام فى الطوارئ 
وفى اليوم التالى.. بدأ المشهد فى الثامنة صباحًا بالتوجه الى مبنى العيادات والطوارئ التى تستقبل المرضى المشتركين بالتأمين الصحى بمستشفى قصر العينى، وفيه كان أكثر مايلفت الأنظار هو الزحام الشديد والطوابير الطويلة، خاصة أن المرضى من جميع المحافظات، الذين لجأوا إلى مستشفيات القاهرة أملًا فى العلاج والشفاء، ليصدموا بواقع أشد مرارة، وإهمال أكثر ألمًا.
حيث يجلس المئات من المسنين والشباب والأطفال، لكل منهم قصة ومعاناة ظن أنه سيتخلص منها بمجرد الوصول إلى هذا المكان، إلا أن ما وجدوه غير ذلك، حيث قال: محمد عبدالعزيز، بالغ من العمر ٥٢ عامًا، وهو أب لثلاثة أبناء أكبرهم طفل بالصف السادس الابتدائى، إنه يتلقى العلاج النفسى منذ عام ١٩٩٣ بالأمراض النفسية والعصبية، ويتقاضى معاشًا بمبلغ ٤٥٠ جنيهًا، ويسكن فى إيجار بـ٤٠٠ جنيه، بجانب أنه مريض بالسكر ويتلقى جرعات الأنسولين مرة واحدة شهريًا على نفقة الدولة، وهى لا تكفى للعلاج، ويحتاج حوالى ثلاثة علب بمبلغ ١٥٠ جنيه، ويضيف أن علاجه النفسى يتكلف مصروفات كثيرة لشرائه لعدم توافره عبر التأمين الصحى، موضحًا أن معاناة المرضى النفسيين تبدأ بعد الكشف أمام الطبيب ووصف العلاج، حيث يتم صرف «ربع العلاج» من الداخل وفقًا للتأمين الصحى، ثم يستكمل المريض باقى صرف العلاج من الخارج بتكلفة حوالي ٢٠٠ أو ٣٠٠ جنيه.
ويضيف: «أواجه أزمة لأن ربع العلاج لم أحصل عليه، وتم صرف ٣ شرائط من العلاج المطلوب فقط ومضطر أشترى العلاج من بره بتكلفة ٣٥٠ جنيهًا»، ما يجعلنى ألجأ إلى طرق التسول من أصحاب القلوب الرحيمة لكفاية احتياجاتى. 

الغسيل الكلوى.. حلم الوصول لـ«الدور»
يقول محمد مصطفى، أحد المرضى المترددين للعلاج بالتأمين الصحى، إن مرضى الكلى هم الأكثر معاناة، خاصة عند «غسيل الكلى»، حيث يستغرق الوقت كثيرًا، وينتظرون طويلًا بالساعات والأيام، خاصة لحجز مواعيد العمليات وصرف الأدوية، بجانب أن التنقل والتواصل بين الأقسام بالداخل يتم بصعوبة، ويستكمل حديثه: «مفيش اهتمام بمريض الكلى.. أو مراعاة لحالته الصحية وبنتعذب»، مطالبين بتوسعة مساحة مبنى وعنابر مرضى الكلى لأن أعداد المترددين للعلاج كبيرة، ولا يوجد اهتمام أو استقبال بشكل منظم، خاصة أن كثيرًا من الحالات قادمون من محافظات مصر فلا يتحملون كل هذه الأعباء.

الروتين أكثر وجعًا

عملية إتمام الأوراق الرسمية بداية من «شباك قطع التذاكر»، والبحث عن تذكرة الدخول، إلى جانب الأوراق المحددة للحصول على العلاج، والتى تنتهى بالكشف ربما تحتاج الى أيام متعددة، وتعد أكثر العقبات التى تواجه المرضى، حيث تستغرق ساعات وأيامًا، أو العودة دون الحصول عليها، وهو ما يمنع المريض من الكشف أو صرف الأدوية، ليعود إلى محافظته بخفى حنين، ويقول أحد المرضى: أول ما يواجه المرضى هو استيفاء واتمام الأوراق الروتينية المطلوبة». وقالت هبة أحمد، التى كانت تصطحب نجلها مازن البالغ من العمر ٨ سنوات، مريض يحتاج تخصص المخ والأعصاب: «بلف بقالى ٥ ساعات بين المبانى خاصة فى الطوارئ.. عشان أدور على الدكتور اللى بعتونى عنده.. ومش لاقية أماكن التحاليل والإشاعات.. ومفيش أى إرشادات داخل المبانى توضح التخصصات والمسافات طويلة»، واستطردت قائلة: «الإجراءات والأوراق المطلوبة محتاجة يومين.. غير الانتظار بالساعات والأيام أمام عيادة الدكتور.. وفى الآخر بيقولوا روحوا وتعالوا يوم تانى».
ويقول عمر أحمد، من محافظة سوهاج مرافقًا لوالده المريض بالكلى: «أبويا متحول من الصعيد عشان يتعالج فى القاهرة.. بس شكله هيموت هنا!».
فتحية وعبير وثالثهما الموت.
وإلى جوار إحدى الغرف تجلس سيدة وتبكى وتدعو الله أن يقف معها فى محنتها، وإلى جانبها سيدة ملقاه على الأرض لا حول لها ولا قوة، وقالت إنها جاءت من محافظة الفيوم مرافقة مع قريبتها «عبير.ع» بالغة من العمر ٣٧ عاما، ولديها ٧ أطفال، مصابة بأمراض والتهابات فى النخاع الشوكى منذ أكثر من ٤٠ يومًا، والشلل النصفى، بجانب الإصابة بقرحة الفراش.
وتحكى قائلة: «جئنا من مستشفى الفيوم للقصر العينى فاكرين الأمل جاى.. بس اتبهدلنا وده حال كل المرضى اللى جايين من المحافظات»، حيث تبدأ المعاناة عند «قطع التذاكر»، والركض من شباك إلى الآخر بحثًا عن «تذكرة دخول»، والمريضة «مرمية فى الأرض»، حاولت فتحية أن تطلب لها الكرسى المتحرك لتنقلها من خلاله إلى الداخل، ولكن واجهت مشكلة أخرى، حيث لا تتاح الكراسى للمرضى إلا بمقابل وتقديم البطاقة الشخصية.

هيرمونى فى الشارع
وأضافت أنها تنتظر دور المريضة «عبير» للكشف، أكثر من ٤ ساعات وسننتظر حتى دخول المريضة للكشف عند الطبيب، ثم تبادلنا أرقام الهواتف للتواصل، وبعد مرور ساعتين من الزمن على مغادرة الحاجة «فتحية»، فوجئنا باتصال منها تقول «الحقونى هيرمونا فى الشارع»، عدنا إليها مرة أخرى، وقالت: «بعد الانتظار أكثر من ٥ ساعات عشان الكشف.. الموظفون قالوا الوقت اتأخر.. ولو مستعجلة اكشفيلها بره على حسابك»، وتقول وهى تبكي: «نحن لا نملك حتى ثمن مواصلات العودة إلى محافظة الفيوم، ومن المفترض أن نسافر مرة أخرى حتى تحديد موعد آخر، والمريضة حالتها تتدهور يوميًا.. وتترك ٧ أطفال لوحدهم.. أرجوكم أنقذونا».

تدخل المدير
ذهبنا معها إلى مكتب مدير العيادات بمستشفى قصر العينى لتوضيح الموقف الذى حدث مع المريضة ولحل المشكلة، قام مديرالعيادات، بإجراء الاتصالات الداخلية بالأطباء فى المستشفى لاستقبال الحالة، حيث ألحقنا بأحد الأطباء، الذى اطلع على التحاليل والإشاعات المرفقة مع المريضة «عبير»، فقال الطبيب: «الحالة دى حرجة جدًا.. ولازم تتعرض على طبيب متخصص بالمخ والأعصاب، سارعنا إلى مبنى الاستقبال الذى يشبه الخندق ذات الممرات المختنقة، والمرضى يجلسون على الأرض على الجانبين وسط بكاء البعض والآخر يركض بحثًا عن الأطباء وغرف الإشاعات والتحاليل، فلا توجد لافتات إرشادية للبسطاء، وأخيرًا عثرنا على غرفة رديئة يقولون إنها تخصص «كشف المخ والأعصاب»، توجهنا إلى الطبيب بالداخل وفقًا لما نصحنا به المدير، واطلع أيضًا على الإشاعات والتحاليل المرفقة مع المريضة، وقال: «الحالة حرجة جدًا.. ولازم تتحجز فى أسرع وقت.. بس مش فى إيدى الموضوع ده.. فى إيد الدكتورة «سارة»، وبالفعل بادر بالاتصال بها، وجاءت مؤكدة صحة تشخصيه للمريضة موضحة: «فعلًا حالة حرجة ولازم تتحجز بس مفيش أماكن النهارده».

فيما خرجت المريضة، وهى تبكى من شدة الآلام، ومرافقوها جالسون على الأرض داخل مبنى الطوارئ حتى نستكمل الإجراءات، فانتظرنا قليلًا وكان الحل الوحيد هو التوجه إلى مكتب العميد، استقبلنا السكرتير الخاص بالمكتب، وتم عرض الوضع والحالة له، وفى خلال ١٥ دقائق استجاب العميد، وأرفق معنا مدير القطاع، وسكرتير المكتب، للتوجه إلى الحالة واتمام إجراءات البحث عن «غرفة لحجز المريضة»، وعاودنا مرة أخرى إلى الدكتورة «سارة» داخل ممر الاستقبال، وأمرت بإعادة التحاليل والإشاعات داخل المستشفى للتأكد من التشخيص بشكل دقيق، فتوجهت المريضة ومعها لها المدير والسكرتارية، وتمت الإجراءات فى حوالى ٣ ساعات لتسلم نتيجة التحاليل، وسارع مساعدوه مع الحالة حتى توافرت غرفة وسرير لحجز عبير، بعد معاناة استمرت من ٨ صباحًا حتى ٧ مساء.
من جانبه رفض الدكتور علاء غنام، مدير برنامج الحق فى الصحة، وعضو لجنة صياغة قانون التأمين الصحى، التعليق على المشهد بعيادات أحمد عرابى التابعة للتأمين الصحى، قائلًا: «أنا مليش دعوة بالتأمين الصحى، دى مش حاجة مهمة عشان أتكلم فيها».