الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطف بيومي يكتب: شخصية العاهرة في الأدب المصري الضرورة والإدانة «11»

العاهرة في الأدب
العاهرة في الأدب المصري
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«حمام الملاطيلى».. السعار الجنسى والشذوذ نتيجة للنكسة
إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة فى مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذى يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذى يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومى والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصرى الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. تتوقف الدراسة التى تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة فى إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولى الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني. فى التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط فى الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال.

إسماعيل ولى الدين (١٣)
فى «حمام الملاطيلي»، التى نُشرت طبعتها الأولى فى العام ١٩٧٠، يقدم إسماعيل ولى الدين عالما شعبيا يعبر من خلاله عن وقع هزيمة يونيه ١٩٦٧. تختلط محنة المهجرين من مدن القناة مع لعنة الفقر والقطيعة مع التاريخ، ويهيمن السعار الجنسى والشذوذ الذى يعكس الأزمتين الذاتية والموضوعية فى واقع مضطرب، يتوافق إيقاعه غير السوى مع المتغيرات الكارثية بعد الهزيمة.
أحمد، الشاب المهجَّر مع أسرته من الإسماعيلية، يبحث عن وظيفة فى القاهرة بعد حصوله على الثانوية العامة، ويتطلع أيضا إلى الالتحاق بالجامعة وانتشال أبيه وأمه وإخوته من هاوية الحياة الخشنة فى المكان الكئيب المزدحم الذى يعيشون فيه، لكن «خطاب التوصية» لا يحقق الأحلام الوردية المأمولة، وينخرط الحالم الصغير مضطرا فى المنظومة العشوائية التى تعيش قرب أطلال التاريخ، وعبر تجربته المثيرة تتجسد شهادة مهمة لا تكتمل بمعزل عن عالم الدعارة والعاهرات.

الحب والشفقة
نعيمة، واسم الشهرة نوسة، عاهرة شابة تقترب من أحمد عند جلوسه لالتقاط الأنفاس فى حديقة الأزهر: «تقف أمامه. تمد يدا مصبوغة بالحناء، أظافرها مدهونة بلون وردي. العيون تتقابل للحظة. تتباعد. أحمد يرمى بعيونه فى المجلة يتصفحها من جديد. إنها تطلب قرشا. فتاة لها فستان وحذاء ووجه ليس بقبيح، ولكنه متعب. تتذلل فى طلب نصف قرش. وعندما استراب فى الأمر للحظة سمعها تقول بعصبية: «يا رب سهل. متى يسمعني». وقال لها: لماذا أنت عصبية. وضع قرشا فى يدها. تركها إلى المجلة التى أمامه، بريق حذائها الذهبى فى المجلة.
- الأولاد ضربونى بالحجارة. هل ترى هذا الأثر. بيقولوا إنى حرامية.
تبكى بدموع مزيفة أو حقيقية. لقد أعطيتها قرشا. إذا ماذا تريد؟ عندى من المشاكل ما يكفيني، لا ينقصنى فى هذا الوقت مشكلة أخرى».
الوصول إلى محطة الجوع والتسول، وليد أزمة تتعرض لها نعيمة وتفضى إلى البطالة وفقد العمل فى المنزل الذى يضمها مع ثلاث فتيات أخريات. تُطرد جراء خطأ ترتكبه وتدفع الثمن فادحا: «الرجل الوحيد الذى كان يقوم على خدمة البيت ويلبى طلبات الزبائن أراد يوما أن يختلى بي، وليس هذا عجيبا فى هذا البيت، ولكنى كنت فى هذا اليوم عصبية متمردة ذات مزاج غبي، فصددته بعنف غير مكترثة بغضبه وتأثيره على صاحبة المنزل وكانت النتيجة أنى وجدت نفسى فى الشارع ضائعة تماما، لا مكان لي».
التمرد الاستثنائي، لأسباب مزاجية عابرة، ينتهى بالعاهرة إلى الطرد والتشرد، ذلك أن العمل الفردى بلا محصول، ويتطلب الأمر مؤسسة تضفى الحماية وتحول دون السقوط فى قبضة الشرطة. العائد المادى ضئيل خارج البيت والمعلمة، والتجارب قاسية تصل بها إلى المرض الذى يفسد السلعة المعروضة للبيع: «وفى الشوارع العديدة وفى الليالى الطويلة تعرفت بأشكال عدة، تلميذ، موظف، سائق تاكسى كنت أنام فى عربته أحيانا، أغازل الشرطى الذى كان يقوم بحراسة المنطقة حتى يقبل أن يرقد معى وينسى المخالفة اللعينة. حتى أصابنى مرض فى جسمى، مرض يوقف عملى تماما. رفضنى سائق التاكسي، التلميذ الذى لا يدفع شيئا، الموظف المخمور، وعامل الثلاجات الذى سلفته يوما من مالى القليل. رفضنى الناس جميعا. المرض ينتشر فى جسمي. قصر العينى يعالجنى بقذارة، يستقبلنى بلعنات ويودعنى بقرف. ماذا فعلت؟ إنه كان عملي.. لقد سقطت أثناء العمل».

المرض الجنسى يعنى الإفلاس وانقطاع الموارد، فضلا عن حصار خانق قوامه الاشمئزاز والقرف وصب اللعنات. «إصابة العمل»، كما تقول نعيمة ساخرة، تنتهى إلى التسول فى المقابر، ولا يملك أحمد إلا أن يتعاطف معها ويضرب لها موعدا جديدا بعد نهاية اللقاء الأول الذى يجمعهما، بل إنه يفكر فيها عندما تغادره ويضيف إلى همومه هما: «لماذا يتذكر الفتاة الآن بردائها الأخضر؟ أين ستنام الليل والجميع يرفضونها؟ الجامع يرفضها. المنازل ترفضها. الفنادق لا تجد عندها مالًا تأخذه منها».
يتعلق بها أحمد ويحن إلى رؤيتها ويجد فيها فتاة مسكينة جديرة بالشفقة، لكنها لا ترى العلاقة فى الإطار نفسه، ويتحول الأمر عندها إلى حب جارف لا تخفيه، وهو ما يتجلى فى الكلمات التى تبوح بها دون تردد أو تلعثم: «وأنا معك.. لا أجوع ولا أعطش.. ولا أتمنى حياة أخرى».
تحبه وتراهن عليه لتحقيق التوازن الضائع فى حياة كئيبة غير مشبعة، وفى المقابل يشفق عليها مبتعدا فى مشاعره عن الحب بالمعنى الحقيقى للكلمة. تعرض عليه أن تقيم معه لتتفانى فى خدمته:
«- لماذا لا تأخذنى عندك.. سأخدمك بعينى وعافيتي. لن أنام معك حتى أشفى تماما. أنا صريحة ولا أكذب أبدا، سأنام على الأرض، سأغسل ملابسك، سأمسح بلاطك.
قال لها وهو يتحرك فى اتجاه حمام الملاطيلي:
- ولكن ليس لى بيت».
كيف لمن لا يملك بيتا أو عملا مستقرا أن يحب على النحو الذى تندفع فيه نعيمة؟ لا شك فى إخلاصها وجديتها وتطلعها إلى حياة آمنة هادئة، ولا شك أيضا أن موقف الشاب ليس سلبيا عن عمد، ذلك أنه مأزوم مضطرب عاجز عن منح ما يفتقده.
يسعى أحمد إلى إقناعها بالعمل فى أحد مصانع التريكو، وترفض نعيمة بإصرار، متشبثة بعد الشفاء من مرضها بالعودة إلى المهنة التى لا تتقن غيرها، وتنقطع معها كل صلة تربطها بالحياة التقليدية القديمة التى لا يمكن أن تُستعاد: «لا تستطيع أن تذهب إلى قريتها القريبة من كفر الشيخ. لا تستطيع أبدا أن تعتب هذه الأرض حتى ولو جاء أو استيقظ «أخيها» من تربته. لا تستطيع أن تذهب وتراه، أو ترى أمها. هناك عمها وابن عمها.. هناك أيضا حكم بقتلها..
قال لها: ولكن هل ستستمرين فى هذا الطريق؟ الأيام تغير الإنسان وقد تغير الكثير من ملامحك ومن جسدك اللدن.
لم تكن على مستوى سماعه فى هذه الليلة، قالت ضاحكة بعد فترة صمت:
- إذا أردت أن تتزوجنى سأترك كل شيء من هذه الليلة، سأضحى بما أكسبه وسأعمل كأنى خادمة رخيصة تخدم زوجها وأولادها.. ولكن سيدى سيكون أنت».

الفارق شاسع بين الواقع التعيس الذى تعيشه نعيمة والمستقبل الذى تراوده زوجة وأمًا، أما الماضى القريب فيتضمن تهديدًا بالموت على يدى العم وابنه. الأزمنة الثلاثة تتداخل وتسهم فى تشكيل شخصية العاهرة بعد ميلاد العلاقة مع أحمد، والمتاح فى قصة الحب والإشفاق أن يكون الاتصال الجنسى بينهما ذا مذاق مختلف.
العشق والموت
حياة نعيمة الجنسية حافلة بعشرات الرجال الذين تلتقى بهم فى إطار عملها الاحترافى، ولا تجارب على الإطلاق بالنسبة لأحمد. يكابد كلاهما ويتعذب بلا تحقق، ويضطران معًا للرضوخ لما يفرضه عليهما الواقع وتحدياته. تعيش نعيمة فى ظل خوف لا ينتهى من المجهول، ويتخبط أحمد بدوره ولا يعرف الاستقرار. لا يمكن القول إنه يحبها بالمعنى الشائع للكلمة، لكنه «يدمنها» ويتعلق بها دون تفكير جدى فى آفاق المستقبل.
تتفق العاهرة العاشقة مع رفيقات الحجرة على أن يخلين لها المكان الذى يجمعهن: «ستتقابل مع حبيبها لأول مرة. ستقابل عريسها. ستقابله بكل ما فيها من حب.. لا يراهما أحد. لا تكشفهما عين سوى الله».
يكشف احتفاء نعيمة بزيارة أحمد عن الحب العميق الذى تكنه للشاب الذى يضفى على حياتها معنى تفتقده وتحن إليه، فهى تعد له الطعام والنبيذ وحجرة نظيفة منظمة بقدر ما تستطيع: «لو استطاعت أن تأتى بزهرتين من زهور القرافة التى يأتى بها بعض الأغنياء أيام المواسم»!
فكرة الاحتياج الجنسى ليست مطروحة بالنظر إلى أن الجنس هو العمل اليومى الذى ترتزق منه نعيمة، فلا متسع بالضرورة للشعور بشىء من الحرمان. الأمر عندها مراودة للحب الذى يتجاوز الجنس ولا يهمله أو ينكره: «اليوم عروسة لأول مرة، كأن الأيام الماضية كلها ماتت. هذه اللحظة فقط هى الحية. ولكن ألن تذهب سريعا لتأتى ساعة الفراق، ثم ساعات العمل الكئيبة؟».
إنه الاتصال الجنسى الأول فى حياة الشاب البكر، ومفهوم الحب عند نعيمة يختلف جذريا عن اللذة الحسية التى لا تفتقدها بحكم العمل، وفى هذا السياق يمكن استيعاب ما تقوله فى نشوة التحقق: «لم أذق الحب من قبل. مهنتى صناعة الحب، ولكن الحب ليس فى الظاهر ولكن بالداخل، داخل تجويف الصدر. هنا بين الثديين، فى المنطقة النحيفة. هنا يوجد حبي، حب لك وللعالم بأكمله».
لغة نعيمة تفوق ثقافتها ووعيها المحدود، لكن الجوهر الذى تعبر عنه ينم عن صدق لا يطوله الشك. فرصة اللقاء فى الحجرة لا يسهل تكرارها، والشاب الذى يستمتع باللقاء يتحول سريعا ويقف على حافة الملل: «يضيق بحبها الشديد ولهفتها الملحة وسؤالها الدائم عليه فى الحمام وفى دكان الدرب الأصفر، وإصرارها أن يبادلها الحب دوما».

مثل هذا التباين اللافت فى المشاعر بمثابة الترجمة العملية للاختلاف الكبير بين الحب والإشفاق، العاطفة الصادقة والتعلق المؤقت الذى لا ينفرد وحده بالقلب. غاية ما يفعله أحمد هو استيعاب أزمات نعيمة وإدراك أبعادها وتقديم بعض النصائح العاقلة الرزينة، ولا يتقدم عن ذلك خطوة. يعرف أنها تخاف من انتقام العم وابنه: «مرات كثيرة نصحها بأن تسافر إلى الإسكندرية. ولكن كيف تتركه. إنها تخاف ألا تراه يوما. أصبحت متعبة يا نعيمة، لا أستطيع ولا أقدر على هذا الإخلاص. أحبك ولا شك ولكن ليس بمقدار حبك.. يجب أن ترى نفسك ولو مرة واحدة. إنك تهزلين.. إنك تسيئين إلى نفسك.
- ولكنى أحبك... ويكفينى أن أراك ولو ساعة فى كل يوم إلا إذا كرهتنى وأصررت أن تبتعد عني. ساعتها سأقتل نفسي. لا أمل لى فى أكل أو شراب أو نوم مع الزبائن».
يسيطر الحب على نعيمة فيؤثر سلبا فى المسار المعتاد الذى تألفه، والنفور من الزبائن الذين ينهشون جسدها يقود إلى البطالة مجددا. لا ترضى المعلمة الكبيرة عن سلوكها الجديد فتطردها: «ليست مريضة كما يظن.. ولكنها زهقت، ملت حياتها.. كان الرجال يكبسون روحها. وجوههم لزجة، أسنانهم عطنة، أيديهم بطشة قوية كأيدى خنزير، عيونهم العسلية لئيمة كاذبة، كرهت الحب اليومي، كرهت الحب المتغير، كرهت الأكتاف، الصدور، الأفخاذ الممتلئة بالشعر. بعضها قوى، بعضها ضعيف، سئمت، كرهت الحياة المتغيرة.. كرهت الحمل الضعيف فوقه كبش قوى يمتص دمه. لو تستطيع أن تحتقر الأيام الماضية وأن تمضى بعيدًا».
التغيير ليس واردا أو ممكنا، والحب الذى تراهن عليه لن يقود إلى إعادة إنتاج الحياة، ذلك أن الطرف الثانى لن يقدم لها الخلاص. تعترف لمن تحبه ولا يحبها: «إنى أهواك وأنت تدري. تركت عملى لأنى لا أستطيع أن أرى أو ألتحم مع رجل غيرك».
من التشبث العنيد بالعمل الذى لا تعرف غيره، إلى إيثار البطالة والتشرد ضنا بجسدها على غير من تحب. المعاناة مزدوجة، مادية ونفسية، والقتل مصير متوقع تنتهى معه الرواية الحافلة بالنماذج المتنوعة المتكاملة التى تقدم شهادة غير تقليدية عن طبيعة الحياة المصرية بعد هزيمة يونيه ١٩٦٧.
لا يخلو بناء شخصية نعيمة من اضطراب وارتباك، وينوب الروائى عنها أحيانا فيهدد مصداقيتها، لكنها تندمج فى أجواء المشهد وتسهم فى بناء اللوحة بكل ما فى ملامحها من تعثر وإسراف انفعالي، كأنه التجسيد لمصر ومحنتها فى سنوات الأزمة التى لا تلوح لها نهاية قريبة.