الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الدين وامتلاك الحقيقة المطلقة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نقلت صحيفة الحياة اللندنية فى عددها الصادر يوم الثلاثاء الماضى تصريحا لشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب جاء فيه " حذر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من خطورة فكرة تخلى الأديان عن امتلاك الحقيقة المطلقة التى يروج لها فى الغرب، بل وفى (كذا) الدول العربية فى بعض الكتابات.
وأوضح الطيب أنه : يجب التصدى لهذه الفكرة وحماية شبابنا من أخطارها لأنها تهز العقائد فى قلوب المؤمنين بها ، لافتا إلى أن تلك الفكرة تضع الأديان فى مهب الريح .
وأكد أن كل مؤمن بدين يجب أن يرتفع إيمانه إلى درجة اليقين الجازم بأن دينه يمتلك الحقيقة المطلقة، بغض النظر عما يخالفه من الأديان الأخرى، قائلا : إن الحل ليس فى أن يترك كل منا شيئا من الحقيقة المطلقة للآخر، بل فى أن يعتقد كل منا بأن دينه هو الحقيقة المطلقة، مع الاعتقاد بوجوب احترام الآخرين وأديانهم.
وشدد على أن هناك فرقا هائلا بين احترام اعتقاد الآخر وحريته فى أن يعتقد ما يشاء، وبين الاعتراف بعقيدة هذا الآخر" [ الحياة / العدد 20094 / الثلاثاء 10 أبريل 2018/ ص 4] 
يأتى تصريح شيخ الأزهر بعد عقود طويلة خلت فيها الساحة الفكرية لدعاوى مهاجمة (امتلاك الحقيقة المطلقة) بحجة أن اليقين المتولد من امتلاك الحقيقة المطلقة لا ينفك عن التعصب، وأنه كلما ازدادت وثوقية صاحب الاعتقاد فى معتقده ازداد رفضا وكراهية للآخر.
ومن ثم فقد دعا أصحاب هذه الفكرة – ابتداء من جون لوك فى (رسالة فى التسامح) عام 1689م ، وجون ستيوارت مل فى كتابه (عن الحرية) عام 1859م، ومن تأثر بهما من مثقفى العرب إلى يومنا هذا - إلى اللا قطعية، وعدم الجزم، والاعتقاد بنسبية صحة عقيدة الإنسان ودينه، حيث يرون أن العقائد الدينية ليست حقائق متفقا عليها غير قابلة للشك ، بل كل دين - عندهم - هو الحق بالنسبة لصاحبه، ومن ثم فليست هناك حقائق مطلقة ثابتة، وإذا كان الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يتخلى عن وهمه بامتلاك الحقيقة المطلقة - أو كما يسمونها الدوجماطيقية Dogmatism - ، ويدرك أن عقيدته كعقيدة من يخالفه، لا يصح فيها يقين ولا جزم.
وهذه الدعوى هى الأساس التى قامت عليه فكرة التعددية الدينية فى العصر الحديث والتى تنظر إلى الدين باعتباره تجربة ذاتية نسبية، وعلى ذلك فالأديان جميعا متكافئة لا فرق بينها، وهذا – على زعمهم – هو المدخل للتسامح، والقضاء على العصبية والتطرف الدينى وما يجره من ويلات الإرهاب والحروب الدينية التى عانت منها البشرية.
فخلاصة المبدأ الذى تقوم عليه نظريتهم أن امتلاك الحقيقة المطلقة والتعصب وجهان لعملة واحدة، كما أن التشكك والنسبية والتعددية الدينية السبيل الوحيد لتحقيق التسامح.
وهذه الدعوى فى ظاهرها دعوى براقة لاسيما وقد تولى كبرها فى عالمنا العربى قامات ثقافية كبيرة.
لكن هذه الدعوى على رواجها بين قطاعات كثيرة من المثقفين فإنها تحتاج إلى تمحيص، وقد فتح تصريح شيخ الأزهر باباً من القول فى تفنيد هذه النظرية التشكيكية.
نختلف مع أصحاب هذه الدعوى فى القول بأن التسامح ينشأ فى كنف التشكك فى العقيدة وعدم التيقن منها، ويمكننا أن نضرب مثالا على ذلك بالإسلام ، حيث نجد أن من شروط صحة الاعتقاد فى الإسلام اليقين الذى لا يخالطه شك، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون ) [ الحجرات: 15]، وقد بدأت سورة البقرة بنفى الشك عن القرآن الكريم، قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ) [ البقرة: 2]، ويصرح القرآن بأن ما أنزل على رسول الله هو الحق (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [ يونس :94] وقد ورد فى صحيح السنة ما يجعل اليقين شرطا للإيمان فقال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم )أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ( [ مسلم : كتاب الإيمان]
فالآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة اشترطت لصحة الإيمان عدم الارتياب، ونفى الشك، ومع ذلك فالإسلام الذى اشترط اليقين لصحة العقيدة هو نفسه الذى دعا إلى التسامح الدينى، وحرم الإكراه فى الدين، قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256] واللافت فى الآية الكريمة أنها قرنت تحريم الإكراه فى الدين - الذى أوردته مورد الخبر لا الإنشاء تأكيدا على تحريمه تحريما قاطعا - بتبين الرشد من الغى، وكأن القطع والوثوقية بما هو رشد وبما هو غى سبب فى عدم الإكراه فى الدين وليس العكس كما يزعم أصحاب نظرية الشك واللاجزمية.
إن للتسامح مصدرا آخر غير الشك ألا وهو الاعتراف للمخالف بحقه فى الاختلاف وإن كان خطأ، واعتقاد ما يشاء وإن كانت تلك العقيدة مخالفة لصحيح الاعتقاد.
ينشأ التسامح من الإقرار بحق الآخر فى أن يعتقد ما يشاء، ولا يعنى هذا الإقرار بحق الآخر فى أن يعتقد ما يشاء أن يتشكك الإنسان فى عقيدته، فلا علاقة مطلقا بين أن يوقن الإنسان بصحة عقيدته يقينا جازما لا يخالطه أدنى شك وبين أن يكون متسامحا مع من يختلف معه فى تلك العقيدة.