الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يقظة مصر الحديثة "6"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع دكتور محمد رفعت باشا فى كتاب «يقظة مصر الحديثة» بقوله: ولكن الخطوة الأكثر جرأة التى اتخذها النساء المصريات فى القاهرة خلال ثورة 1919، كانت المسيرة التى نظمنها فى 16 مارس 1919 عندما سارت النساء فى خمارهن وملابسهن السوداء واتجهن إلى القنصليات لتقديم الاحتجاج ضد الأعمال السيئة للسلطات العسكرية البريطانية. وكان هذا اليوم خطا أحمر فى تاريخ الحركة النسوية فى مصر؛ فلأول مرة فى مصر والعالم العربى تجمع أكثر من 300 امرأة مسلمة وقبطية يمثلن الطبقات العليا والوسطى ومعهن زوجات رشدى وسعد والسيدة هدى شعراوى الزعيمة النسائية فيما بعد على رأس هذه المسيرة. واتجهن جميعا فى شوارع القاهرة الرئيسية يهتفن بالشعارات الوطنية باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية؛ حيث قوبلن بالحماس والتصفيق. وبعد أن قدمن الاحتجاج اتجهن إلى منزل سعد الذى أصبح قبلة كل الوطنيين، ولكن القوات البريطانية ظهرت على المسرح وسدت الطريق إلى منزل سعد بالبنادق والأسلحة، ولم تكترث النسوة وصمدن لمدة ساعتين رغم حرارة الظهيرة، وأصررن على الوصول إلى بيت الأمة. وهنا تقدمت امرأة شابة وشقت نقابها وأظهرت صدرها وتحدت القوات أن تطلق النار عليها إذا تجرأت على ذلك وصرخت «أجعلونى السيدة Cavell الثانية لأننا لا نخشى الموت». 
وكانت هذه المظاهرة النسائية مقدمة للخطوات المتسارعة التى اتخذتها المرأة المصرية تحت قيادة صفية زغلول وهدى شعراوى لتحرير المرأة، وتراجع النقاب بالتدريج وحلت محله الحبارة. ثم تقرر التعليم الإلزامى الأولى لجميع الأطفال ذكورا وإناثا من 6 إلى 12 سنة وفقًا لدستور 1923، وهكذا فإن تحرير المرأة الذى بدأ عام 1919 كان القوة الدافعة وراء جميع الإصلاحات النسائية فى المستقبل بعد ذلك التاريخ. 
وبعد تحرير المرأة، أعقبه التحرير الاقتصادى للبلاد فى عام 1916 عينت الحكومة لجنة برئاسة إسماعيل صدقى الاقتصادى الشهير لدراسة الطرق اللازمة لتطوير التجارة والصناعة فى البلاد. وكان من أهم مساعدى إسماعيل صدقى فى هذا التقدير هو طلعت حرب (1867-1941) رائد الاقتصاد فى مصر الحديثة. وقد تخرج طلعت حرب فى مدرسة الحقوق العليا واللغات، وخدم لبعض الوقت فى بنك أجنبي، ولكن الشاب لم يلبث أن أصبح مشبعا بفكرة البدء فى أن يكون لمصر بنك مصري، بل نشر بحثا حول الموضوع عام 1907، وقد هاله أن يرى فى ذلك الوقت أن اقتصاد مصر بالكامل فى أيدى الأجانب. وأن جميع عمليات البنوك والتأمين والملاحة والتصدير والاستيراد وجميع الأنشطة يحتكرها الأوروبيين أو أبناء المشرق المغتربين، وأدرك أنه بعد ثورة 1919 لا قيمة للمطالبة بالاستقلال ما لم يتعلم المصريون الاعتماد على أنفسهم فى الاقتصاد. 
وقد اعتبر سعد زغلول ورفاقه فى باريس أنفسهم المحامين عن الشعب المصرى الذى كلفهم بالحديث باسمه أينما أثيرت المسألة المصرية. لماذا تقوم لجنة ميلنر بتجاوزهم وتذهب إلى مصر. ولذلك كانت مقاطعة بعثة ميلنر هى كلمة السر عند كل المصريين، وكان لدى سعد فى باريس ولجنة الوفد المحلية فى القاهرة الوقت الكافى لتنظيم مثل هذه المقاطعة حتى يقنعوا أعضاء البعثة بأن يغيروا وجهتهم من مصر إلى سعد والوفد فى فرنسا. 
ووصلت البعثة إلى القاهرة فى 7 ديسمبر 1919 برئاسة اللورد ميلنر، وكان أعضاؤها Rennel Rodd الذى كان سفيرًا لبريطانيا فى روما والقائد السابق للقوات البريطانية فى مصر Owen Thomas ورئيس مجلس العموم ورئيس تحرير مجلة البرلمان. وبقيت البعثة فى مصر ثلاثة أشهر، كما بقيت المقاطعة صلبة، فقد وضعت الشعارات الوطنية على مدخل فندق سميراميس، حيث كان يقيم أعضاء البعثة. 
وحتى عندما ذهب الأعضاء لزيارة المحافظات، فإن المبعوثين الوطنيين ذهبوا وراءهم لتحذير الناس من الاتصال بأعضائها. ولفت ذلك نظر بريطانيا والعالم أجمع إلى إصرار الشعب المصرى على تحقيق استقلاله من خلال ممثليه فى باريس، سعد زغلول ورفاقه. ويجب أن نضع فى الحسبان أنه فى ذلك الوقت كان غاندى يبشر بالمقاطعة السلبية فى الهند. ولم تكن مقاطعة بعثة ميلنر فى مصر سوى مرحلة من المقاطعة السلبية التى تبناها أعضاء الوفد. 
من ناحية أخرى، سارت المظاهرات والاحتجاجات وتتابعت الواحدة تلو الأخرى بما صاحبها من إصابات، وذلك لتعزيز المقاطعة، وقرر المحامون فى ديسمبر الإضراب لمدة أسبوع، وعقدت النساء المصريات المسلمات والقبطيات اجتماعا فى 12 ديسمبر فى الكنيسة القبطية الرئيسية فى القاهرة، احتجاجا على بعثة ميلنر وحكومة يوسف وهبة. 
ورغم المصاعب المتتالية التى واجهها يوسف وهبة؛ فقد استمرت حكومته أطول فترة مما كان متوقعا، واختلف معه وزير داخليته توفيق نسيم، ولجأ إلى القصر. واستقال يوسف وهبة فى 19 مايو 1920، وتولى نسيم فى اليوم التالى تشكيل حكومة جديدة ضمت خمسة من أعضاء الحكومة الثمانية السابقة، كان مواليًا للقصر بشكل علني، وبالتالى لم يكن لديه شعبية، فلا عجب أن جرت محاولة اغتيال نسيم فى 12 يوليو من جانب موظف صغير، تم اعتقاله ومحاكمته وشنقه، فلم يتحمل الشعب تشكيل حكومات غير مسئولة وغير سياسية تعتمد على رغبات الملك، والمندوب السامي، ومن يتحمل الخطأ لو أن البلاد غرقت مرة أخرى فى الفوضى؟