الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اليوتوبيا والواقع الاجتماعي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رحب علماء الاجتماع بالتقابل الذى وضعه «كارل ماركس» بين الأفكار والطبقات الاجتماعية؛ لأنهم أرادوا أن يحلوا مشكلة المعرفة عن طريق دراسة اجتماعية للفكر الإنساني؛ لكى يكشفوا عن الحتمية التى تخضع لها كل معرفة إنسانية. وقد حرصوا على تأكيد أولوية العامل الاجتماعى فى تحديد الاتجاهات المعرفية الغالبة على كل مجتمع، لكنهم لا يتفقون مع ماركس فى قوله إن طبقة البروليتاريا (أى الطبقة الكادحة)، هى وحدها التى تملك تلك القدرة السحرية على كشف زيف الواقع، بل هم يقررون –على العكس من ذلك– أن لكل وضع تاريخى حقيقته الخاصة، وأنه ليس ثمة طبقة اجتماعية تحتكر لنفسها المعنى الكلى لأية حقبة تاريخية بعينها.
ولا شك أن مسيرة المجتمعات البشرية توضح أن كل عنصر ينتج فى فئات اجتماعية مختلفة، تلك الأفكار والقيم التى تحتوى –بشكل مكثف– على الاتجاهات والميول غير المتحققة، والتى تمثل حاجات العصر ومطامحه وآماله. وقد أطلق بعض الباحثين على هذه العناصر الفكرية التى تعلو على الواقع وتميل إلى تحطيم بناء النظام القائم اسم «اليوتوبيا». وقد تضمنت كل فترة من فترات التاريخ أفكارًا تسمو على النظام القائم وتتفوق عليه، لكن تلك الأفكار لم تقم بدور «اليوتوبيات» بل كانت «إيديولوجيات» مناسبة لتلك المرحلة من التاريخ. لكن هذه «الإيديولوجيات» لم تنجح فى تحقيق أهدافها المرجوة.
وكثيرًا ما تتشابك «اليوتوبيات» مع الطبقات الصاعدة وتتداخل معها عناصر «إيديولوجية». فعلى سبيل المثال، كانت «يوتوبيا» الطبقة البورجوازية الصاعدة فى عصر النهضة تدور حول فكرة «الحرية» التى كانت جزءًا منها «يوتوبيا حقيقية»، لأنها احتوت على عناصر متجهة نحو تحقيق نظام اجتماعى جديد؛ كان أداة قوية فى تصدع النظام القائم سلفًا وتفكيكه. وبعد أن تحققت تلك العناصر أصبح جزءًا منها يتصل بالواقع الفعلي، لكن الحرية التى تعنى تحطيم قيود النظام الطبقى السائد والتى تعنى –أيضا– حرية الفكر والرأى (أى الحرية السياسية) أصبح تحقيقها ممكنًا إلى حد واضح فى عصر النهضة عنه فى النظام الإقطاعى السابق. ويستطيع الباحث اليوم أن يعرف كيف أصبحت «اليوتوبيات» حقائق فعلية، ويتبين –بيسر– كيف كانت فكرة «الحرية» –فى تلك الفترة– تحتوى على عناصر «يوتوبية» فقط، بل تتضمن كذلك عناصر «إيديولوجية». ومن هنا، فإن الفصل بين العناصر «الإيديولوجية» فى الطبقة البورجوازية المسيطرة، وبين العناصر «اليوتوبية» الحقيقية القادرة على تحقيق ذاتها فى الواقع الفعلي؛ تم من خلال طبقة اجتماعية ظهرت مؤخرًا على مسرح التاريخ لتتحدى النظام القائم.
والواقع، إن التمييز بين ما هو «يوتوبي» وما هو «إيديولوجي» أمر فى غاية الصعوبة، لكنه ليس مستحيلًا –كما يرى عالم الاجتماع الشهير «كارل مانهايم»– ذلك لأن المقياس الحقيقى للتفريق بين هذين العنصرين هو درجة تحقق «اليوتوبيا» فى التاريخ وتحولها إلى «إيديولوجيا». فالأفكار التى تسمو على الواقع التاريخى وتكون قوى منفجرة تحطم حدود النظام القائم هى «يوتوبيا»، بينما الأفكار التى تخفى النظام الاجتماعى السائد فهى «إيديولوجيا». والدليل على ذلك أن حقائق الماضى الفعلية وضعت حدًا للصراع الفكرى القائم حول ما إذا كان فى الأفكار المتسامية التى تتفوق على الواقع الفعلى عنصرًا «يوتوبيا» أدى إلى تحطيم روابط النظام القائم، وعنصرًا «إيديولوجيا» أصبح وسيلة لإخفاء الواقع وحجبه.
وفى هذا الإطار، يرى المفكر الفرنسى «سوريل» أنه يجب أن تعى طبقة البروليتاريا وضعها المأسوى، وأن تتمسك بالآراء الثورية لتكشف عن البناء المتداعى للطبقة البورجوازية. وإذا استطاعت ذلك، أمكن استبعاد الخطر الذى يتهدد مستقبل العالم. لكنه– من ناحية أخرى– حذر من العنف المضاد وهو العنف البورجوازي، الذى يستطيع مواجهة العنف البروليتاري، ويتخذ الإجراءات لتدعيم وجوده كقوة مسيطرة. والحق أن «سوريل» فى تناوله لصراع الطبقات، أدرك بوضوح الانحلال فى الطبقتين المتصارعتين. فطبقة البروليتاريا استقطبت من قبل السياسيين، والطبقة البورجوازية –بدورها– لم تستطع أن تعى حركة التاريخ؛ لأنها اعتقدت بقدرتها على تحدى التاريخ ذاته؛ ومن ثم استمرت فى محاولاتها إضفاء بريق من الزيف والكذب والخداع على حقيقتها، لذلك نادى البعض بضرورة حشد الجماهير وتحركها للإضراب العام أو «الإضراب النقابي»، الذى يعتمد على التمرد والثورة والغضب، ويتضمن بُعدًا أسطوريًا لا غنى عنه لكل ثورة عمالية.