الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الوحدة المصرية - السورية.. حدث جليل في الثقافة القومية

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذ تحل غدا الخميس الذكرى الستين للوحدة المصرية - السورية، فإن هذه التجربة الوحدوية التي تجسدت في دولة واحدة تحمل اسم "الجمهورية العربية المتحدة" شكلت وتشكل حدثا جليلا في الثقافة القومية، بقدر ما تستدعي البحث في سبل تطوير وتحديث هذه الثقافة العروبية الجامعة في وقت يموج فيه العالم بمتغيرات وتحديات جديدة ومغايرة بالضرورة لما كان عليه الحال لحظة إعلان دولة الوحدة بين مصر وسوريا في الثاني والعشرين من فبراير عام 1958.
ولعل مرور 60 عاما على هذا الحدث الوحدوي العربي يستنفر المزيد من جهود الباحثين العرب في التاريخ الثقافي والاجتماعي، ناهيك عن حقل العلوم السياسية لتقديم المزيد من الدراسات الثقافية بشأن دولة الوحدة المصرية-السورية التي استمرت نحو ثلاث سنوات ودخلت بامتياز في التراث القومي العربي وتاريخ الأفكار العروبية ووشائج العلاقات بين المثقفين في مصر وسوريا كجزء عزيز من الروابط الجامعة بين المثقفين العرب.
ومثل هذه الدراسات الثقافية حول التجربة الوحدوية العربية بين مصر وسوريا لا تنصرف لأمواج الحنين للماضي بقدر ما هي مفيدة لاستخلاص نتائج من عبر التاريخ، تساعد الأمة العربية في مواجهة الواقع الراهن المشحون بالتحديات الخطيرة والأحداث الجسام، فضلا عن بناء ما يمكن وصفه بـ"ثقافة حداثية قومية قادرة على الاستجابة لمتطلبات الواقع المعاصر".
وثمة حاجة لنوع من "التحليق الفكري" في الأجواء الثقافية العربية بحثا عن إجابات لتحديات اللحظة وشواغل المرحلة، ناهيك عن الأسئلة الكبرى التي تفرضها تحديات وشواغل المستقبل؛ وهو ما قد يتطلب "نضالا فكريا من أجل ثقافة عربية تأخذ بأسباب الحداثة وتتفاعل مع تحولات العصر دون أن تنكر ثوابت لم تتعارض يوما مع قيم ومتطلبات التقدم".
ولن تُكتب الحياة لأي أفكار جديدة من أجل حراك قومي جديد إلا بالتواصل مع أجيال عربية صاعدة لها هموم وأحلام تختلف بالضرورة عما كان منذ 60 عاما، وإن كانت تلك الهموم والأحلام على اختلاف الأمصار والبلدان العربية لتلك الأجيال صاحبة المستقبل تبرهن مجددا على حقيقة الأمة العربية الواحدة.
وتحل هذه الذكرى العزيزة فيما يشكل الموقف المصري حيال الأوضاع في سوريا أمثولة لثقافة الحق وانتصارا لقيم الخير وحرصا على حقن دماء كل السوريين ووحدة ترابهم الوطني، ويتطلع المثقفون مع جماهير شعبهم في مصر ليوم قريب تنتهي فيه المحنة التي يعاني منها الشعب السوري الشقيق منذ نحو سبع سنوات وأن تقطع ذراع الإرهاب في ربوع الشام وتدحر قوى الشر التي تغذي الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد ومحاولات تمديد الصراع وتصعيد الاحتراب حول سوريا التي يدفع شعبها ثمنها بالدم الغالي والنزوح والتهجير الجماعي وتحول كتل كبيرة من هذا الشعب الكريم للاجئين في بقاع شتى من العالم. 
وفيما تتوالى الطروحات والتعليقات في الصحف ووسائل الإعلام حول تطورات المشهد السوري، فان هناك نوعا من الإجماع بين أصحاب الضمائر الحية على ضرورة وقف تحويل سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية وعالمية أو البحث عن مكاسب ونفوذ لبعض هذه القوى "بتحالفاتها المعقدة وأطماعها الجيبوليتيكية ووكلائها المحليين"، على حساب شعب سوريا بكل مكوناته. 
ونظرة لسوريا الجريحة التي تنظر لها قوى إقليمية وعالمية باعتبارها "كعكة ينبغي الفوز بأكبر نصيب فيها"، تظهر أن البون شاسع حقا بقدر ما هو أليم بين الواقع الراهن ولحظة مضيئة في تاريخ الأمة العربية منذ 60 عاما، كما تبرهن على أهمية "النضال الفكري من جانب المثقفين القوميين لتغيير هذا الواقع الأليم الذي لن يبدأ إلا بتغيير المدركات ومستوى الوعي بمتغيرات الواقع ودروس التاريخ معا".
وفي ندوة عقدت أمس الثلاثاء بجامعة الإسكندرية، حذر السفير ووزير الخارجية الأسبق محمد العرابي من خطورة ظاهرة التحالفات بين قوى أجنبية على الأرض السورية ومحاولات استحداث كيانات عرقية أو طائفية على حساب الدولة الوطنية، مؤكدا في الوقت ذاته أن "الإرهاب العابر للحدود يعد أول الظواهر التي تهدد المنطقة العربية وتهدف لتقزيم الدولة الوطنية".
وإذ يرى مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور مصطفى الفقي أن يوم الثلاثين من يونيو 2013 والإجراءات الدستورية التي تلته في الثالث من يوليو وامتد تأثيرها حتى اليوم "بمثابة تحول كبير في تجسيد شخصية مصر المعاصرة أمام التحديات التي تواجهها والمشروعات الغامضة التي تستهدفها"، فإنه أكد أن "ما يجري ضد مصر ليس جديدا عليها بل تعودته القاهرة أمام كل الأحداث الكبرى التي مرت عليها".
ولا ريب أن إعلان الوحدة بين مصر وسوريا منذ 60 عاما كان من هذه "الأحداث الكبرى"، فيما يبقى من دواعي الفخر القومي أن مصر نأت بنفسها عن أي عمل عسكري لفرض استمرار دولة الوحدة التي عرفت بالجمهورية العربية المتحدة بعد الانقلاب الذي دبرته مجموعة انفصالية في سوريا عام 1961 ناهيك عن أن مصر العربية لم تقم أبدا بأي عمل عسكري بقصد التدخل في شؤون أي دولة عربية أخرى أو من منطلق أطماع في ثرواتها ومواردها.
وفيما يلاحظ مثقف مصري آخر هو الكاتب والمحلل الدكتور محمد السعيد إدريس محاولات "إعادة تسخين الأزمة السورية" والتصعيد العسكري من جانب قوى إقليمية ودولية في هذا البلد العربي، فإنه يحذر من خطورة فرض "خيارات التقسيم وأجواء استقطاب إقليمي جديد".
وكان الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل- الذي قضى منذ نحو عامين- شديد الاهتمام "برؤيته الاستراتيجية والثقافية العميقة" بالأوضاع في المشرق العربي وفي قلبه سوريا، وحذر من مخاطر "رسم خارطة جديدة لهذه المنطقة" بكل انعكاساتها على الأمن القومي العربي.
ومن الطبيعي أن تتوالى التعبيرات والاستجابات الإبداعية لمثقفين سوريين حيال المحنة التي طالت في بلادهم، ولعل من أحدث هذه التعبيرات ديوان شعر صدر بعنوان دال: "رأسي مقبرة جماعية"، وتعبر فيه الشاعرة صبا قاسم عن رؤيتها الحزينة لوطنها الذي يعاني من عواصف الدم والدمار.
وإذ تهدد المخاطر البشر والحجر والمستقبل والتراث بين جنبات الأمة العربية لترسم المشهد المخيف الظاهر اليوم أمام كل ذي عينين، يبقى الرهان صائبا على بناء ثقافة عربية جديدة للمقاومة وتغيير الحقائق الاقتصادية والاجتماعية نحو الأفضل على قاعدة معرفية تتيح فهم حركة التاريخ وإمكانية توظيفها إيجابيا، ولعل ذلك هو "جوهر النضال الفكري المطلوب من جانب المثقفين القوميين والمؤمنين بفكرة الأمة العربية الواحدة".
وفيما يشكل الإرهاب أخطر تحديات المرحلة الراهنة، تستدعي اللحظة العربية بمعطياتها جهدا ثقافيا استراتيجيا برؤى مبدعة "للعروبة الثقافية" للإجابة عن أسئلة تتعلق بوجود الأمة وطبيعة النظام العربي الجديد في وقت تتشكل فيه ملامح نظام عالمي جديد.
ولئن ذهب البعض إلى أن كلمة "القومية" أو "العروبة" باتت تثير حساسية حتى لدى بعض المثقفين العرب بعد أن جرى ابتذال كلمتي القومية والعروبة في كثير من المواقف المحزنة، فإن أحدا لا يمكنه إنكار واقع تجسده الثقافة القومية لأنه "واقع لغوي وجغرافي وتاريخي وروحي".
وشأنها شأن غيرها من الثقافات القومية، تبدو الثقافة القومية العربية مدعوة بإلحاح لمواجهة واحتواء الجوانب السلبية للعولمة التي قد تصل لحد الرغبة في التهام الثقافات القومية لصالح تصور يرغب في تنميط العالم وفق نموذج محدد في الثقافة الغربية بما يجافي أي حديث جدي عن التنوع أو الديمقراطية والمساواة وحقوق الشعوب في الخصوصية الحضارية المعبرة عن هويتها.
وبعيدا عن أي إغراق أو استغراق في نظرية المؤامرة، فإن الملاحظ لكل ذي عينين أن تصاعد تلك الهجمة المعولمة لاقتلاع الخصوصية الحضارية وشطب الثقافة القومية قد تزامن مع تصاعد هجمة الإرهاب والقوى الظلامية التي روعت الأمة العربية وصنعت حالة من "تآكل الذات"، كما هو الحال في سوريا الجريحة حيث فعل الإرهاب أفاعيله وألحق خسائر فادحة بتراثها الثقافي وشواهد حضارتها الإنسانية المتسامحة.
ولا ريب أن أفاعيل الإرهاب التي تدمي الأمة وتنال من مقدراتها إنما تسهم جوهريا في تعميق الفجوة الواقعية لحالة اللاتكافؤ بين الأمة العربية وعالم الشمال المتقدم حتى أضحى بعض الساسة في الغرب يجهرون دون خجل برفضهم لفكرة المساواة بين الثقافات.
ولعل الثقافة القومية العربية تستجيب لتلك التحديات غير المسبوقة حقا بتنظيرات ثقافية قابلة للتطبيق على أرض الواقع المختلف كل الاختلاف بتفاعلاته المتصادمة والصادمة عن زمن الوحدة المصرية-السورية منذ 60 عاما وكلاسيكيات مفكر قومي مثل ساطع الحصري وافتراضات منظر حزب البعث ميشيل عفلق ناهيك عن الأحلام القومية النبيلة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
في ذكرى يوم مجيد قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا كلها مع الأشقاء في سوريا.. ورغم المياه الكثيرة والجديدة التي مرت وتمر تحت جسور الزمن، فإن هذه الذكرى ستبقى شاهدة على إمكانية تحويل الحلم لدائرة الفعل بقدر ما تؤكد على أهمية تبني "ثقافة الاصطفاف العربي" في مواجهة تحديات غير مسبوقة.