السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإرهاب وتلوث الهوية المصرية (10)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا ريب فى أن تصريحات البنا فى ذلك السياق كانت بمثابة الجرثومة الأولى لجل الخلايا الإرهابية فى مصر، وقد نجحت كلماته إلى حد كبير فى غرس روح البغض والكراهية فى صدور معتنقى الفكر الإخوانى تجاه المجتمع المصرى باعتباره - وحكومته وما فيه من اتجاهات فكرية وعقدية ووسطية أزهرية - مجتمعًا مارقًا يجب تقويمه. وقد تمكن المرشدون الذين خلفوا حسن البنا بداية من حسن الهضيبى وسيد قطب من ترسيخ مبدأ الجهاد والتقويم والتمكين عن طريق العنف فى نفوس شبيبة الإخوان، متخذين من مبدأ الطاعة والولاء، الذى وضعه المرشد، على رأس شروط البيعة والانضمام إلى هذه الجماعة سبيلًا لذلك. وقد برروا حملتهم التكفيرية للمجتمع المصرى بتبنى قادته العسكريين للفكر العلمانى الذى توغل فى نظم التعليم والتربية والثقافة والأدب والفن والأخلاق العامة والسياسة، واضطهادهم للتيار الإسلامى المتمثل فى الفرقة الناجية التى يمثلونها، ذلك فضلًا عن جنوح المثقفين عن صحيح الدين وتبنيهم الفلسفات المادية الهدامة باسم العلم والحرية والتقدم.
وإذا ما انتقلنا إلى دور الدوائر الغربية فى نشر الجماعات الإلحادية فى مصر - تحت مسميات عدة - فإننا سوف ندرك أمرين، أولهما: قدرة دوائر الاستشراق على انتقاء معاونيها ووكلائها لحمل أفكارها ونشرها فى المجتمع المصرى، إذ وضعوا شروطًا وصفات أساسية يجب توافرها فى اختيار قيادات هذه الجماعات، أهمها: الإحساس بالاغتراب ورفض الواقع، النرجسية وتضخم الأنا، التطلع والرغبة فى الشهرة والمال، الانتهازية، العوز والاحتياج، الإصرار على تحقيق الهدف بغض النظر عن الوسائل، حب المغامرة، طاعة الرؤساء والإخلاص فى تنفيذ الأوامر؛ وثانيهما: دراسة المجتمعات المستهدفة دراسة وافية ودقيقة قبل وضع الخطط لغرس هذه الجماعات وتوفير قدر كافٍ لحمايتها ورعايتها لأداء مهمتها على أكمل وجه (دعم لوجيستى، وتخطيط استراتيجى، وغطاء إعلامى براق، والقضاء على كل ما يعيق التنفيذ من الاتجاهات المعارضة).
ولعل أولى جراثيم الإلحاد النظرى فى مصر (إنكار وجود الله والأنبياء والكتب المقدسة، وتبنى الفلسفة المادية)، يرجع إلى ذلك التلاقح الثقافى الذى حدث فى العصر الحديث وبالتحديد مع الاتصال المباشر لشبيبة المصريين بالفكر الغربى (البعثات - الجاليات الأجنبية فى مصر - المحافل الماسونية - المدرسون الأجانب)، حيث فُتح باب النقاش - فى الصالونات الأدبية وبعض الصحف - حول ما جاء فى الكتب المقدسة من أخبار غيبية وتعاليم شرعية ومبادئ أخلاقية، واستعراض حجج الملحدين عبر التاريخ الإنسانى، لا سيما ما روى عن «ثيودوس القورينائي» (نحو ٢٩٥ ق.م)، وما عُرف عن السوفسطائيين و«أبيقور»، وما ورد فى محاورة القوانين لـ«أفلاطون»، وما جاء فى مقدمة كليلة ودمنة من طعن فى الأديان، وما نسب من أقوال لأبى بكر الرازى وابن الراوندى عن النبوات، وكتابات «جان مسلييه» (١٦٧٨-١٧٣٣م) التى تهكم فيها على عقيدة الخلاص المسيحية، و»فيورباخ» (١٨٠٤-١٨٧٢) صاحب نظرية أنسنة الإله، وكتابات العالمين «كارل فوجت» (١٨١٧-١٨٩٥م)، و«لودفيج بوخنر» (١٨٢٤-١٨٩٩م) تلك التى كذّبت ما جاء فى الأديان عن قصة الخلق ووجود الله، ذلك فضلًا عن كتابات الماركسيين الأوائل «إنجلز» و«لينين» و«ماركس»، الذين نظروا للدين باعتباره أهم عائق للعلم والتقدم وأكبر الداعمين للعبودية والاستبداد والأفيون الذى يحول بين المقهورين والمظلومين والثورة على الإقطاعيين المستغلين والرأسمالية الفاسدة، وأخيرًا فلسفة «فريدريك نيتشة» (١٨٤٤-١٩٠٠م) الذى نظر للدين على أنه يمثل أخلاق الضعف والهوان والعبودية وإن من كان يعبد الرب عليه أن يعلم أنه قد مات على الصليب، ويملأ روحه بالآداب والفنون عوضًا عن معتقدات الكنيسة المضللة، وكتيب «برتراند راسل» (لماذا أنا لست مسيحيًا) الذى هدم فيه أدلة وجود الله التى اعتمد عليها الفلاسفة لإثبات وجوده.
وقد حمل هذه الأفكار إلى مصر العديد من المفكرين الشوام الناقمين على سلطة الكنيسة الكاثوليكية ومعتقداتها الرجعية القامعة لكل من يخالفها انتصارًا للعلم أو العقل، والكتّاب الأتراك، الذين ضاقوا باستبداد الخلفاء العثمانيين وتنكيلهم بكل من يرغب فى اللحاق بركب الحضارة الأوروبية - تلك التى وجدوا فيها طوق النجاة من قلاع الاستبداد ويده الباطشة بالعقول باسم الدين - وأخيرًا معتنقو الماسونية والماركسية والفلسفات المادية التى ارتشفوها على يد فلاسفة أوروبا، الذين تتلمذوا عليهم وتغذوا على نوازعهم (الارتيابية، اللا إرادية) فى الدين وثورتهم النقدية على ما جاء من تعاليم وتصورات وآراء فى الكتب المقدسة.
وبالطبع لم تكن المهمة سهلة أمام قوافل الملحدين، ويرجع ذلك إلى سببين: - أولهما قوة الحس الدينى عند المصريين حيث الجين الحضارى الذى لم يعتنق قط أى شكل من أشكال الإلحاد (فالإله موجود وهو الخالق المبدع الذى يهب للكون خيريته وجماله والمنعم على سائر الموجودات بالحياة، وهو القادر المنتقم الذى يحاسب عبيده على ما ارتكبوه من آثام فى محكمة العالم الأخر، وهو الملك العادل الكامل الذى يفيض ببعض صفاته على الحكام والرؤساء والكهنة والعلماء لإرشاد الرعية)، وثانيهما الالتزام الخلقى والفطرة الخيرة السمحة الودودة المؤمنة بأن الحب والرحمة، هما دستور الحياة، وأن القوة والعنف عقابان رادعان لمن يجترئ ويتهجم على السلم وحقوق الغير، ويعتدى على الحرمات والأعراض والثروات، التى قسمها الإله بعدله بين البشر.
ويعنى ذلك أن الاتجاه الإلحادى لم تكن له جذور فى مشخصات الهوية المصرية، الأمر الذى يمكننا أن ننظر إليه باعتباره عارضًا من عوارض التلوث القيمى، وليس أدل على ذلك من أثر هذه الأفكار فى الثقافة المصرية، فلم تلقَ قبولًا إلا عند حفنة من الكتاب الذين لم يحسنوا قراءة ثوابتهم العقدية فافتتنوا بما تحمله الفلسفات الغربية من نظريات وتصورات وآراء مغايرة للمعتقد السائد المتمثل فى رجعية المحافظين وتعصب المتدينين وجمود الأزهريين وتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية.
وللحديث بقية