الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟ "6"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أما «نيتشه» Nietzsche (١٨٤٤ – ١٩٠٠)؛ فيُعد من أبرز القائلين بأن «الإنسان» هو واضع القيم. فقد رأى أن الإنسان هو الذى أضفى على الكون كل ما فيه من معنى، ولو أدرك عن وعى أنه هو خالق هذا البناء الشامخ من القيم، لعمل على تحقيق الغايات التى يريدها لنفسه تحقيقًا واقعيًا؛ ولا زادت ثقته بنفسه، وبقدراته المبدعة. ولكنه- فى واقع الأمر- ينكر ذلك، ويوهم نفسه أنه قد وجد هذه القيم فحسب، وأنها هناك مفروضة على الأشياء بالرغم عنه، فإذا ما أحس بأنها فى وجودها مستقلة عنه، فلن يحاول أن يغير منها شيئًا؛ بل سيبقيها على حالها وسيقبل الأمور على ما هى عليه. ويتبين لنا أن إرجاع القيم إلى الإنسان عند «نيتشه» لا يعبر عن نزعة ذاتية أو صوفية، بل هو دعوة صريحة للإنسان كى يمارس فاعليته على أوسع نطاق ممكن، فلن يقف فى وجه هذه الفاعلية شيء إذا تبين أن العالم لا يحمل معنى ثابتًا؛ وأن فى وسع الإنسان أن يضفى عليه بمجهوده الخاص من المعانى ما يشاء، مثلما أضفى عليه من قبل معناه القديم. والقوة التى تدفع الإنسان إلى إضفاء قيم معينة على الأشياء، هى «الحياة» فكل تقويم إنسانى إنما يستهدف نفع الحياة فى آخر الأمر.
والحق أن مفهوم «القيمة» لم يحتل مكانًا مهمًا إلا منذ زمن يكاد لا يجاوز القرن التاسع عشر، ولعل اكتشافه كان أعظم ما حققه ذلك القرن، غير أن الآراء التى تدور حوله لم تتبلور بعد ولا يزال أحد موضوعات الفلسفة. لكن لم تتبين أهمية مفهوم القيمة فى تاريخ الفلسفة إلا تدريجيًا، ولذلك لا تعثر فى الفلسفات القديمة على مذهب أو مدرسة فلسفية تجعل من القيم مشكلتها المحورية. الحق أن لدى العقل البشرى ميلًا لا يمكن استئصاله نحو التوحيد بين القيمة والحقيقة، على شرط أن تُفهم القيمة هنا على أنها القيمة العليا للبركة الإلهية أو للسعادة الروحية. وربما كان فى استطاعتنا أن نعبر عن هذه الحقيقة على صورة معادلة فنقول: القيمة = الحقيقة، ويمكننا أن نستنتج من هذه المعادلة، المعادلة التالية: اللا قيمة = اللا حقيقة.
وليس من الصعب العثور على شواهد تؤيد هذا الرأي، فهناك نماذج مستمدة من مذاهب فلسفية ذات أصل صوفى، سواء أكان هذا الأصل صريحًا أم خفيًا. فعند «أفلاطون» مثلًا نجد أن أشد الموجودات حقيقة إنما هى «الصور» أو «المثل»، فالمثل هى الحقائق التى تقابل «اللا حقيقة»، أو «نصف الحقيقة»، ألا وهو «عالم الحس». ولكن المثل أيضًا هى الموجودات الوحيدة القيمة حقًا. وذلك لأن كلا منها إنما هو «كمال» الأشياء التى تشارك فيه. وعالم المثل- فى فلسفة «أفلاطون»- يسطع بنور إلهي. وهكذا نرى على الفور أن الحقيقة والقيمة مرتبطان، أو هما متساويتان. ولكن هذا ليس كل ما فى الأمر: إذ إن هناك سلمًا للمثل، بمعنى أن المثل تندرج فى مراتب يقوم بعضها فوق بعض؛ والصورة التى تقف فوق قمة هذا النظام الهرمى- باعتبارها أعظم الموجودات حقيقة- إنما هى صورة «الخير»، أعنى مثال «القيمة». وتبعًا لذلك؛ فإن هناك توحيدًا صريحًا بين الأكثر حقيقة، والأكثر قيمة، ولا بد أن نلاحظ أنه ليس فى فلسفة «أفلاطون» مطلقًا أى سبب منطقى يبرر وضع مثال «الخير» فوق قمة هذا السلم. وربما كان منطق البحث يقتضى أن توضع صورة الوجود (أو مثال الكينونة أى العنصر المشترك بين سائر الأشياء) على رأس السلم. فلم يكن تصرف «أفلاطون» سوى مجرد إقحام صريح للوعى الصوفى فى وسط منطقه. أما «اسبينوزا» Spinoza (١٦٣٢– ١٦٧٧)؛ فإنه يسجل صراحة تعادل «القيمة والحقيقة» فى صميم مذهبه، فهو يرى أن «الحقيقة» و«الكمال» شىء واحد بعينه. والحق أنه لا يستخدم كلمة «كمال» إلا كمرادف لكلمة «الاكتمال» أو «التمام»، وبالتالى فإن هذه الكلمة عنده ليست اصطلاحًا «القيمة». والقيم الأخلاقية- عنده- ليس لها مكان فى المجرى الفعلى للطبيعة، والخير والشر لا وجود لهما إلا فى أذهاننا وليس لهما أية دلالة ميتافيزيقية، وإنما هما يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب. يقول: «الخير والشر لا يدلان على شيء إيجابى فى الأشياء منظورًا إليها فى ذاتها، وإنما هما أحوال للفكر أو موضوعات فكرية نكونها من مقارنة الأشياء بعضها ببعض... وهكذا يمكن أن يكون الشيء الواحد فى الآن نفسه خيرًا وشرًا، وسويًا إزاء هذا وذاك».
الواقع أن هناك معنيين مختلفين لكلمة «كامل»، أحدهما معنى أخلاقي، فى حين أن الآخر معنى محايد أخلاقيًا. والمعنى الأخير هو ذلك الذى نجده فى بعض التعبيرات المستخدمة كقولنا مثلًا: «دائرة كاملة»، فنحن هنا لا نعنى أن الدائرة فاضلة أخلاقيًا، بل نعنى أنها مستديرة تمامًا؛ وبالتالى لا يوجد أى مضمون ينطوى على معنى «القيمة» بأى حال من الأحوال. وإذا قلنا: «إن الشيطان شرير شرًا كاملًا»؛ فإن أحدًا لن يفهم من هذه العبارة أننا نمتدح الشيطان لخيريته. وإذن فمن الواضح أن «اسبينوزا» حين يوحد بين «الكمال» و«الحقيقة»، فإنه لا يستخدم كلمة «كمال»، إلا بهذا المعنى المحايد أخلاقيًا ألا وهو معنى «الاكتمال» أو «التمام». ومع ذلك، من السهل أن نلاحظ أنه حين يتحدث عن «الجوهر» أو «الله» باعتبار أنه كامل، لا شعوريًا، يُقحم على هذه الفكرة دلالة قوية من دلالات القيمة. وآية ذلك أن الله عنده- كما هو الحال عند سائر الفلاسفة الذين تتأصل جذور الصوفية فى صميم تفكيرهم- إنما هو الغبطة الروحية، وهذه الغبطة هى الكمال، وليس الكمال سوى الحقيقة ذاتها.