الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرواية والتاريخ "2 / 2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
... يبدأ هذا الوعى أول ما يبدأ عموما باستحضار الوظيفتين الأساسيتين للسرد: التفكُّر واستخلاص العبرة واتخاذ المثل (ما تنص عليه الآيات ١٧٦ من سورة الأعراف والآية ١١١ من سورة يوسف والآية ٦ من سورة الرعد). وهو ما عبر عنه بول ريكور، حديثا، بالبعدين اللذين أعطاهما للسرد، وهما: البعد الإيديولوجى المرتبط بأفق التجربة التاريخية التى عاشها المجتمع، والبعد اليوتوبى (المثالى) التأويلى المرتبط بأفق التوقع، أى بالطريقة التى سيستعمل بها الروائى السارد الحادثة والتأويل الذى سيعطيه لها، وهو شبيه بما عبرتُ عنه شخصيا فى أحد كُتُبى بـ «الوظيفية القياسية» للسرد ودورها فى زنة وضعٍ آنى (أو استشرافى توقعى تنبؤى) بآخر سابق (أو بحادثة ماضية تاريخية وقائعية حقيقية أو مُفترَضة، بعيدة أو حديثة العهد). 
صنع وعى تاريخى بحادثة ما، يمر حتما بمرحلتين ضروريتين (كما يقول فلاسفة التاريخ). تتمثل أولاهما فى تقبُل الفرد لمُجمل الحكايات التى تبدو له واضحة ومنسجمة، أما الثانية فهى وعى الفردُ ذاتيته الخاصة به وتأثير حاضره فى كيفية تساؤله عن ماضيه أو مُساءلته له وفهمه، فنرى أننا أمام علم بواقعة ما، ثم اتباع هذا العلم بسلسلة أفعال أخرى فى المستوى الذاتى منها حدوث/إحداث وعى ما، وإدراك زمنية الذات الممتدة أو تاريخيتها (ماضى. حاضر. مستقبل) ما يؤثر فى كيفية تدبر الفرد للماضى واستخلاص عِبرِه التى يُندمَجُ على أساسها فى الحاضر ويُخطط للمستقبل. اندماج الأزمنة الثلاثة كُلها على هذا النحو فى هذه العملية وفهمُ منطق السبب والنتيجة هو ما نعنيه بالوعى التاريخى، هنا يلعب الروائى ويُعمِل أدواته ومهاراته فى الإقناع والإمتاع فى العرض والإنشاء: فيعزل وينتقى ويزيد ويُنقِص ويتخيل ويُخْفى ويُضخم ويئول للتأثير على قارئه وتقديم وجهة نظر وتأويلات تخدُم أهدافه وبرامجه. 
هامش التصرف هذا هو المسئول فى حالات كثيرة عن المعارك التى تنشأ هنا أو هناك مما سبقت الإشارة إليه سابقا، وذلك لتداخل حقيقتين أساسيتين: حقيقة المؤرخ وحقيقة الأديب (الروائى) وعدم ثبات الفروق بينهما ثباتا صريحا برغم ما يبدو من تمايزهما وتمايز حقلى نشاطهما واختلاف قواعد وتقنيات السرد فى الرواية عنه فى التاريخ. 
أ- يبدو السارد (الروائى) مؤرخا حتى وإن لم يعترف بعضهم بذلك لاشتراكه مع المؤرخ فى تفسير الماضى وقراءته وتأويله وهو ما يدعونا إلى الاتفاق مع بول ريكور فى فرضيته القاعدية التى ترى وجود ارتباط بين فعل سرد حكايةٍ ما والطابع الزمنى للتجربة الإنسانية، ارتباطا ليس اعتباطيا بقدر ما هو شكل من أشكال الضرورة العابرة للثقافات transculturelle، والتى تتجلى فى البُعدين المذكورين فى الفقرة السابقة. 
ب- لا يكتب الروائى التاريخ بالمعنى المعروف للتاريخ، بل هو قارئ للماضى بوسيلته الأدبية، هذه الأدبية تتيح له قدرا كبيرا من الحرية فى التناول وتمكنه من هوامش تأويل وتخييل لا تتوافر للمؤرخ الحَدَثى الوقائعى الذى يكون محكوما بالحقيقة الواقعية التى يمكن التأكد من حدوثها زمانا ومكانا وفاعلين، كما أنّ الروائى السارد مُتسامٍ نوعا ما عن التاريخ عندما يغدو مُسائلا له فى الوقت نفسه ومفككا لجزئياته وحيثياته ومعتنيا بما لا يعيره التاريخ اهتماما كما أشرنا فى نهاية الحلقة الماضية.
من هنا قد تكون استعادة الروائى للتاريخ (أو لسِير ومواقف شخصيات ذات رمزية معينة /سلبا أو إيجابا/ لدى هذه الأمة أو تلك) ورؤيته منسجمة مع الخط العام سياسيا أو دينيا أو شعبيا، فتكون كتابتُه مقبولة ومُرحَّبا بها. وقد لا تكون كذلك، فيكون مبرر الهجوم عليه عندئذ ليس هو تناوله لهذه الأحداث أصلا، إنما يكون المبرر هو الكيفية التى استعاد بها الواقعة أو الشخصية والصورة التى قدمها بها (مثلما هو الشأن فى جوانب من الموقف من زيدان مما سبق ذكره)، أو القراءة التى أعطاها لها إن لم تكن مُنسجِمة مع التصور العام والنظرة السائدة، فيُتَّهم بالتزوير والتحريف والتشويه والتدنيس والتشكيك وإثارة البلبلة وتهييج الرأى العام، وقد تذهب الأمور إلى حد تكفيره (إذا كان السياق دينيا) وتخوينه (إذا كان السياق وطنيا) وإهدار دمه فى الحالتين.
لذا نرى المحاذير الكثيرة لاستعادة الرواية للتاريخ وصعوبة تحقيق متلازمة الإمتاع والإقناع برغم أنّ العودة إلى الماضى واستعادة أحداثه وكتابتها روائيا هى وعى لهذا الماضى، وهذا الوعى هو المؤسس الأساسى للوجود التاريخى. 
أخيرا، تندرج استعادة التاريخ فى معظم حالاتها تقريبا جليا أو ضمنيا ضمن برامج ومعارك وتجاذبات حضارية ودينية وطائفية مذهبية وثقافية وفكرية وسياسية وغير ذلك.