الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المئوية.. وأنسنة الزعيم! "3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان ظهور كتاب (فلسفة الثورة) لعبدالناصر، بداية الصدام بين الزعيم وجماعة الإخوان الإرهابية؛ لأن هذا يعنى أن عبدالناصر أصبحت له فلسفة وتوجه يتصادم مع المنهج الإخوانى، ونصحوا الرئيس القيام بزيارة للإسكندرية، وتم ترتيب جدول زيارات بدأ بجلسة مع المجلس البلدى برئاسة المحافظ المستشار محمد كمال الديب وحسين بك صبحى مدير عام بلدية الإسكندرية، ثم اجتماع آخر فى الغرفة التجارية بمحطة الرمل، وكانت الاجتماعات قد تجاوزت المواعيد المقررة، واختل الجدول الزمنى واحتل شباب الإخوان مقدمة المؤتمر الشعبى فى المنشية أمام البورصة، وذلك يوم ٢٤ أكتوبر ١٩٥٤م؛ فقد فوجئ الشعب بأن لافتات (فلسفة الثورة) قد لصق على التاء المربوطة لكلمة الثورة، فظهرت الإعلانات (فلسفة الثور)، وأثار هذا التصرف استياء شباب هيئة التحرير، ودخلوا فى معركة وتشابك بالأيدى والعصى وازداد الاستفزاز أطلق شباب الإخوان وقتها هتاف (عاش نجيب) طبعًا بمفهوم المخالفة تعنى سحب الاعتراف من جمال عبدالناصر الذى جاء فى هذه الجولة لكى يشرح اتفاقية الجلاء التى رفضها الإخوان وتبرأ منها محمد نجيب، وكانت هذه المعركة فى الميدان أحد الأسباب فى (توتر) محمود عبداللطيف الذى أطلق الرصاص على الرئيس جمال عبدالناصر، حينما بدأ خطابه وقد اتخذ والده الحاج عبدالناصر وشقيقه الأستاذ عز العرب عبدالناصر مكانهما بإحدى الفراندات المواجهة للمنصة، وانطلقت الرصاصات مباشرة على الرئيس وهى موجهة إلى صدره، لكن شاءت العناية الإلهية ألا تصيبه؛ فقد وقف شامخًا حيث قفز المقدم ممدوح سالم نائب قائد البوليس السياسى يمسك بالميكروفون ويقول (إمسك اللى ضرب)، وأدرك الجميع أنها محاولة اغتيال حقيقية، وبالفعل تم القبض عليه من شرطى اسمه (محمد العلايلي) بكل شجاعة، ولم يرهب أى مضاعفات للموقف، واستطاع جمال عبدالناصر بعبارته الشهيرة.. «فليقف كل منكم فى مكانه.. أنا جمال عبدالناصر أتحدث إليكم.. أيها المواطنون.. إذا مات جمال عبدالناصر فكلكم جمال عبدالناصر»، وقد حاول الأستاذ الليثى عبدالناصر أن يفحص صدر الرئيس فرفعه بعيدًا عنه قائلًا بانفعال: «سيبوني.. سيبوني».. وواصل كلامه: «جمال عبدالناصر الذى زرع فيكم العزة وزرع فيكم الكرمة»، وعلى المنصة تم نقل الأستاذ أحمد بدر للإسعاف بعد أن أصابته طلقة فى بطنه، وأصيب الوزير السودانى الميرغنى حمزة الذى شارك فى الاحتفال ممثلًا للشعب السودانى، ومن هذا اليوم تحول جمال عبدالناصر من مرحلة «الأنسنة» إلى مرحلة الزعامة، وبدأ الحصار الحديدى حوله، وكان هو يلاحظ ويستسلم أحيانًا ويقاوم أحيانًا أخرى، وبالنسبة للأسرة مثلًا فقد ترك أمورها لوالده الحاج عبدالناصر حسين، الذى ظل يحتفظ بالطربوش رغم أن ثورة قادها ابنه ألغت هذا النموذج، لكنه كان رجلًا تقليديًا وصريحًا، وأحيانًا تصدر عنه آراء تعارض سياسة ابنه، لكن الرئيس يقابل هذا الأمر بالضحك والتعليقات الطريفة، واختص الأستاذ عز العرب ثانى أشقاء الرئيس بعض الأمور الطارئة الخاصة بالأسرة، وأحيانًا كان يقوم بدور الوساطة مع بعض القوى منهم محمد فرغلى باشا، الذى عين مستشارًا لمؤسسة القطن، وإبلاغ الرئيس بما كان يتعرض له الأستاذ الكبير موسى صبرى من ممارسات أضرت بالصحافة، وكان ينقل رسائل الرئيس إلى فؤاد سراج الدين عن طريق الأستاذ عز العرب الذى كان صديقًا للأستاذ حافظ شيما القطب الوفدى، والأستاذ عز كان يعلم بالثورة عندما صدر أول بيان أبلغ والده بأن هناك حركة فى الجيش، وكان تعليق الوالد.. «لا جمال مالهوش فى الموضوع دا».. ولم يكن يعلم إن ابنه هو قائد الحركة.
وكان الرئيس جمال عبدالناصر فى معاملاته الإنسانية موزعًا بين عاطفته والمصالح الوطنية العليا.
إن أى تقييم موضوعى لعبدالناصر يجب أن يحرص على رؤية مختلفة الزوايا، وهى متداخلة وتتفاعل يجب أن تكون بعينين وأذنين وعقل واحد.. هناك وقائع أخرى فى مختلف الاتجاهات تحتاج إلى صفحات وصفحات، وإننى أرجو أن أتناولها بعيدًا عن التأصيل الفكرى والنظري.
صحيح أن هناك مواقف سلبية تتعلق بظاهرة (تصنيم) أو (تأليه الزعيم) لكن ماذا نفعل...
عرفت مصر تقديس الملوك، وتأليه الرؤساء، ونسج أساطير من الخيال فى تمجيدهم، فكانت هناك نماذج تحول فيها الملوك والرؤساء إلى أنصاف آلهة.. وأصبح كل منهم «كامل الأوصاف»، وترجحوا هذا فى أدبياتهم المتوازنة، فكان التعبير أما بناء هرم ليصبح مقبرة.. أو معبد تقدم فيه القرابين، وإلى العصر الحديث؛ فإن الملك الحاكم هو (ولى النعم) ويقال له (مولانا)، حتى رئيس الوزراء فكان صاحب المقام الرفيع الرئيس الجليل وصاحب المقام السامي، وحتى رئيس الوزراء لم يعفه هذا المنصب الرفيع والألقاب المتعددة التى منحت له عندما يخاطب الملك، كان يوقع الرسالة واصفًا نفسه بأنه الخادم أو الخادم المطيع، وكانت المناسبات التى فرضت على الشعب الاحتفال بها، عيد ميلاد الملك، وعيد الجلوس على العرش، وعيد الدستور، وذكرى نجاته من القصاصين بالنسبة للملك فاروق، وهناك «أسبوع إسماعيل» وأسبوع «فؤاد» وأسبوع «محمد على باشا» مؤسس الأسرة العلوية، والخطاب الإعلامى هو التسبيح بالحمد للجالس على العرش، وإذا كانت مناسبة علمية مثلًا فهو العالم الأول، أو مناسبة كشفية فهو الكشاف الأعظم.
وجاءت ٢٣ يوليو وألغت شخصنة الأعياد لرأس الحكم، لكن لم تلغ المقالب السياسية والتراشق والتنابز بين المدارس التاريخية، فإن المناسبة التى تقتضى على أن نحصر المناسبة فى (أنسنة الحديث) حول هذه الشخصيات التى قادت البلاد وتحملت مسئولية العمل الوطنى وتقييم جهودهم وعطائهم، أصبحت الآن ملكًا للتاريخ؛ لأن كلًا منهما أصبح فى ذمة التاريخ.
جمال عبدالناصر، استغلته الجماهير وصنعت منه بطلًا قوميًا ووطنيًا ورفعت قدره بل ورفعت سيادته، ثم ودعته بعد ذلك بنشيد لم يؤلفه بيرم التونسي، أو نزار قبانى أو أمير الشعراء أحمد شوقى، لكنه نشيد تلقائى مؤلفه مجهول، وكان خير وداع له: (الوداع يا جمال يا حبيب الملايين).
جمال عبدالناصر انتصر من قبره على حملات الأكاذيب الذى تمس نزاهته رغم شهادة الزور للبعض، خاصة فيما يتعلق بشراهته للطعام السويسرى فقد كان يعشق الجبن القريش والبصارة...
فهل كان يستورد البصارة الصينى فى الحقائب الدبلوماسية دون جمارك..؟!