الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإعلام ونشر ثقافة السلام والتوافق المجتمعي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان جون جالتونج Galtung هو أول من استخدم مصطلح «صحافة السلام» فى سبعينيات القرن الماضي؛ حيث قدم هذه المفهوم مدخلًا جديدًا للإعلاميين يمكنهم من البحث فى الأسباب البنائية والثقافية للصراع ومدى تأثيره على حياة المواطنين وتقديم المضمون الذى يعكس القواسم المشتركة بين أطراف الصراع كافة فى مجتمعٍ معين، وطرح مقترحات ومبادرات لتخفيف حدة هذا الصراع. وظهر مفهوم «صحافة السلام» كرد فعل عكسى على مفهوم «صحافة الحرب» التى تغطى قضايا العنف بطريقة متحيزة من خلال التركيز على أحداث العنف والتفاصيل الخاصة بها مثل عدد الضحايا وطبيعة الأسلحة المستخدمة، ولا تهتم بالعمليات والأسباب التى أدت إلى العنف وأثره فى حياة البشر، وترى أن نتيجة الصراعات يجب أن تنتهى بانتصار أحد الأطراف وهزيمة الطرف الآخر.
ووفقًا للتحليل الوظيفى يمكن التمييز بين سبع وظائف أساسية للصحافة تعكس التطور التاريخى لنظريات ونماذج الإعلام خلال العقود الخمسة الماضية، وهذه الوظائف هى: وظيفة الصحافة كمصدر للمعلومات، وظيفة الصحافة ككلب حراسة (Watchdog)، وظيفة الصحافة كحارس بوابة (Gatekeeper)، وظيفة الصحافة كصانع سياسة (Policy making)، وظيفة الصحافة كوسيط دبلوماسى (Diplomacy mediator)، وظيفة الصحافة كداعم للسلم المجتمعى (Peace facilitator)، ثم الصحافة كصانع للسلم المجتمعى (Peace building). ويُلاحظ أن دور الصحافة فى صنع السلم المجتمعى وحل الصراعات فى مجتمع معين يأتى كوظيفة متقدمة للصحافة، خاصة فى المجتمعات التى تعانى صراعات داخلية سواء كانت صراعات عرقية أو ثقافية أو دينية أو سياسية، وكذلك فى الفترات الانتقالية التى تمر بها هذه المجتمعات. 
ويرى البعض أن دور الصحافة فى بناء السلام يتضمن مجموعة من المحاور الأساسية، أولها تحديد الأسباب التى أدت إلى حدوث الصراع فى المجتمع سواء كانت هذه الأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، والثانى تحديد أوجه الخلاف الأساسية بين الأطراف كافة تجاه الصراع، والثالث منع ظهور مشكلات وصراعات قديمة وإشراك أكبر عدد من المواطنين فى عملية بناء جسور السلم المجتمعي، والرابع المساعدة فى بناء المؤسسات التى يمكنها إدارة الصراعات وعدم اللجوء إلى العنف. 
وقد ظهر ما يُطلق عليه «صحافة السلام» Peace Journalism بعد الانتقادات التى وجهت للنموذج الليبرالى مع ظهور تقرير «ماكبرايد» فى العام ١٩٨٠، والذى لم يؤخذ بتوصياته فى ذلك الوقت بسبب المصالح المتعارضة للدول الغربية من جانب ودول العالم الثالث من جانب آخر. ومن أهم هذه الانتقادات تلك التى شككت فى مدى وجود علاقة بين حرية وسائل الإعلام وتعبيرها عن التعددية من جانب والديمقراطية وأهدافها من جانب آخر، ومدى تناسب مفاهيم الإعلام والديمقراطية المرتبطة بالنموذج الليبرالى مع السياقات والبيئات غير الغربية التى لها أُطر ثقافية واجتماعية مختلفة، كما أن تطبيق هذه المفاهيم على وسائل الإعلام فى الدول النامية يمكن أن يجعل ملكية هذه الوسائل وإدارة مضمونها فى أيدى فئات محددة لها مصالح خاصة، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى إمكانية تنامى احتكار هذه الوسائل وفقا لنموذج الاقتصاد السياسى لوسائل الإعلام. 
وقد مثل هذا الاتجاه الجديد تطورًا فى دور وسائل الإعلام، بما يعكس التداعيات التى واجهتها دول أوروبا الشرقية وبعض دول العالم الثالث التى شهدت تحولًا فى بنيتها السياسية وبالتالى بيئتها الإعلامية، ويركز هذا الاتجاه على ضرورة وجود مجموعة من الإجراءات والالتزامات التى توجه وسائل الإعلام لمنع الصراعات العنيفة ودعم السلم المجتمعي.
ووفقًا لهذا الاتجاه، تُعتبر العملية الديمقراطية هدفًا أساسيًا لوسائل الإعلام، ولكن مضمونها ومعناها يختلف عما كان متعارفًا عليه أثناء التحول الديمقراطى فى دول أوروبا الشرقية فى التسعينيات. فبدلًا من السعى لإضعاف وتقويض سيطرة الدولة، تتضمن العملية الديمقراطية فى نموذج «بناء السلام» السعى لتقوية «الدول الهشة» fragile state، وبناء جسور علاقات جيدة بين الدولة والمواطنين، وتشجيع التصالح بين فئات المجتمع التى كانت متصارعة وقت التحول السياسي. وتعتمد الصحافة هنا على استراتيجية استفادة كل الأطراف من حل الصراع Win-Win Strategy، والتركيز على الصراع فى حد ذاته كمشكلة بدلًا من التركيز على طرف معين كسبب فى هذا الصراع؛ فصحافة السلام تركز على مبادرات حل الصراع وأسس صناعة السلم المجتمعى والحفاظ عليه.
ففى حالة انعدام الثقة بين أطراف الصراع تأتى «صحافة السلام» كطرف ثالث يمكنها تسهيل الاتصال بين هذه الأطراف وتقليل درجة التوتر بين المتنافسين ومنع الصراع من الاتساع وتعمل كوسائل للبناء وليس للهدم. وعلى الرغم من أن مسئولية حل الصراع يجب أن يضطلع بها جميع فئات ومؤسسات المجتمع، فإن الصحفيين بما لديهم من قدرة على الدخول للمعلومات والتأثير فى عملية صنع القرار يمكنهم تغطية أخبار الصراع بأسلوب يقلل من آثاره وتقديم أسس التغلب عليه.
وفى هذا السياق، تثور بعض القضايا التى تتعلق بمدى قدرة الصحافة ووسائل الإعلام على بناء السلام، ومن هذه القضايا قدرة الصحفيين على تغطية قضايا السلام مثلما يغطون قضايا الحرب والصراع التى تبدو أكثر إثارة ومناسبة للقيم الصحفية، وهنا تأتى أهمية تأهيل الصحفيين أنفسهم للقيام بذلك من الناحية المهنية، ومن القضايا الأخرى طبيعة المجتمع وثقافته ومدى تقبل الأفراد فى مجتمع ما لقيم حل الصراعات سلميًا، فقد تكون المشكلة فى المجتمع نفسه وليس فى الصحفيين، ولذلك يركز الباحثون على أهمية رؤية دور الصحف فى حل الصراعات فى إطار ثقافة المجتمع والمدى الذى يمكن أن تستغرقه فترة تغيير أفراده ومكوناته لطبيعة الصراع ومدى تأثيره فى حياتهم.
وقد شهدت البيئة الإعلامية المصرية منذ انطلاق ثورة يناير ٢٠١١ استقطابًا إعلاميًا بين الأطراف المختلفة التى كانت ولا زالت تتنافس على الوصول للسلطة أو التأثير فى الفعل السياسي. وتطور هذا الاستقطاب فى السنوات التى أعقبت ثورتيْ ٢٥ يناير ٢٠١١ و٣٠ يونيو ٢٠١٣، لدرجة أن البعض اعتبر أن النسيج الاجتماعى والثقافى المصرى أصبح يواجه تحديًا كبيرًا لم يتعرض له على مدى تاريخه. وكانت وسائل الإعلام إحدى الأدوات المهمة فى إدارة الصراعات السياسية فى تلك الفترة معبرة عن وجهة نظر معينة ورافضة لوجهة النظر الأخرى. إننا نقدم هذا الدور الجديد للصحافة والإعلام فى مصر كإعلام صانع للسلام والتوافق المجتمعى بدلًا من الإعلام الذى يسعى لتأجيج الصراعات والانقسامات، وهذه رؤية قابلة للمناقشة على مائدة السياسيين وعلماء السياسة وخبراء الإعلام والإعلاميين.