الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الميلاد بين الألم والأمل

القس سهيل سعود
القس سهيل سعود
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فصل الميلاد بالنسبة لمعظم الناس، يخلق فيهم مشاعر البهجة والأمل، لهذا نراهم يحتفلون والبسمة على وجوههم والفرحة تملأ كيانهم. بينما نفس الفصل، يوقظ في نفوس البعض الآخر، مشاعر الحزن والألم، بسبب اختبارات مؤلمة يعيشونها من مآسي الحروب والتفجيرات التي طالت الكنائس والجوامع، إلى مآسي: المرض والفقر والتهجير، وغيرها من المآسي الكثيرة. وبالتالي، بينما يضاعف فصل الميلاد، مشاعر الأمل عند البعض، فإن نفس هذا الفصل، يضاعف مشاعر الألم لدى المتألمين، وما أكثرهم.
هذه المشاعر المختلطة من الألم والأمل، التي نراها بين الناس، لا سيما في فصل الميلاد. قد شعر بها أيضًا، الذي احتفلوا بولادة المسيح في القرن الأول، كما يخبرنا البشيران: لوقا ومتى، اللذان سردا قصة الميلاد. فإنجيل لوقا سلط الضوء على مشاعر الفرح، فيما إنجيل متى سلّط الضوء على مشاعر الألم، بذكر حادثة مؤلمة حول قتل العديد من الأطفال.
يخبرنا لوقا الإنجيلي، أنه عندما زارت مريم العذراء نسيبتها اليصابات وكانت الاثنتان حاملتين، فحين ألقت مريم التحية على اليصابات ابتهج جنين اليصابات (يوحنا المعمدان) عند لقاه جنين مريم (يسوع المسيح)، وقد عبرت اليصابات عن بهجة جنينها وبهجتها بقولها لمريم «هوذا حين صار صوت سلامك فى أذنى ارتكض الجنين بابتهاج فى بطنى (لوقا ١: ٤٤). وعند ولادة المسيح نقل خبر الولادة للرعاة ملاك الرب، فقال لهم «ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب» (لوقا ٢: ١٠). 
كما ظهر مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحًا الله على ولادة المسيح، ومرنمًا «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لوقا ٢: ١٤). إنجيل لوقا يشدد على جانب الفرح والتسبيح والأمل.. وهذا الجانب يظهر كثيرًا في احتفالنا بعيد الميلاد، لكن هناك جانبًا آخر لقصة الميلاد كثيرًا ما ننساه أو نتجاهله، قد سلط الضوء عليه إنجيل متى وهو جانب الألم والدموع التي سبّبها حاكم متسلط عرف تاريخيًا بقساوته ووحشيته في قراراته، هو الملك هيرودس الذي حكم أورشليم زمن ولادة المسيح. 
يخبرنا إنجيل متى أنه عندما سمع هيرودس الملك، من المجوس أنهم يتبعون نجما أشار إلى ولادة طفل ملك، «اضطرب وجميع أورشليم معه» (متى ٢: ٣). وبالتالي، فمجرد سماعه بولادة طفل قد يصبح ملكا ينافسه وينافس أولاده وورثته على السلطة والعرش، فقد أصيب بحالة من الاضطراب والانزعاج الشديدين، فقرر أن يقضي على هذا الطفل الملك، الذي يشكل تهديدا لسلطانه.. وحتى ينفذ مأربه، استخدم كل الأساليب الدبلوماسية وغير الدبلوماسية مبتدءًا، أولا، بالأسلوب الدبلوماسي، فاستفسر من رؤساء الكهنة اليهود وكهنة الشعب عن الموضوع.. واستوضح من المجوس زمن ظهور النجم الذي أشار لولادته، ثم تظاهر بالتديّن والرغبة الشديدة في السجود له، عندما يعلم بمكان ولادته.. وبعد أن وجده المجوس وسجدوا له، أوحى لهم الملاك أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فأدرك حينئذ هيرودس أن مساعيه الدبلوماسية الملتوية لم تجد نفعًا.. عندها أصدر قراره بتنفيذ مجزّرة وحشية عن سابق تصوّر وتصميم.. فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها «من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذين تحقّقه من المجوس» (متى ٢: ١٦).. فالجشع للسلطة والتمسك بالكراسي سبّب ولا يزال يسبّب الكثير من الآلام والمآسي في كل العالم. يقول إنجيل متى واصفًا الأجواء المؤلمة التي سادت بعد قرار هيرودس الوحشي، «صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير (متى ٢: ١٧).. إنه نوح وعويل الأمهات والآباء.. راحيل تبكي على أولادها، ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين (متى ٢: ١٨). فهيرودس الظالم سبّب ألمًا كبيرًا.. والألم يجعلنا نسأل تساؤلات كثيرة لا إجابة لها.. لماذا ابنتى أنا؟ لماذا عائلتى أنا؟ فالألم سر يبقى فهمه مخبأ في مقاصد الله غير المعلنة، فحتى الرب يسوع لم يفسر هذا السر.. إلا أن المسيح علّمنا أنه أمام الألم، يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي نفكر في سبر غور هذا السر، بل علينا أن نبادر إلى مساعدة المتألمين لنخفف آلامهم.. في زمن الميلاد هذا.. وفيما نحن منشغلون بأجواء الفرح والأمل، يجب ألا ننسى المتألمين لنخفّف آلامهم.. فحقيقة قصة الميلاد الكتابية التى سردتها الأناجيل، تتأرجح بين الألم والأمل.. إن البشيرين، لوقا ومتى، اللذين سردا قصة الميلاد، يجمعان على حقيقة لاهوتية واحدة هي، أن هذا الطفل السماوي يسوع المسيح، يمنح الأمل ويخفف الألم.. وهنا أود أن استبدل كلمة «الأمل»، وهي الأمنية التي ينتظرها إنسان من إنسان آخر، بكلمة «الرجاء»، وهي كلمة لاهوتية يستخدمها الكتاب المقدس، لتعبّرعن الأمل الذي يمنحه الله للإنسان.. وهي الكلمة التي استخدمها الرسول بولس لوصف المسيح إذ قال عنه، «عليه سيكون رجاء الأمم» (رومية ١٥: ١٢).
 عرّف أحدهم الرجاء، بأنه القوة الدافعة، التي تنبع من حضور الله في الحياة.. وتعريف تعبير الرجاء، هو معنى الاسم الآخر الذي أطلقه الملاك على الطفل يسوع، أي عمانوئيل.. يذكر إنجيل متى الذي ذكر جانب الألم من قصة الميلاد، الاسم الثاني للمسيح، قائلا «هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى ١: ٢٣). 
إن الطبيعة اللاهوتية لكلمتي «الفرح والرجاء» اللتين تترددان كثيرًا في الميلاد، إنهما غير أنانيتين ولا تكتفيان بذاتهما، لكنهما تكتملان فقط بالمشاركة مع الآخر.. وبالتالي، فالفرح الميلادي لا يكتمل إلا بمواساة الحزانى الآخرين. والرجاء الميلادي لا يكتمل إلا بتخفيف آلام المتألمين الآخرين.. فعندما نعيش الفرح والرجاء بهذا المعنى، عندها نكون محتفلين حقيقة في معنى الميلاد.