الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تنوير سلامة موسى من الإحالة إلى الإشارة «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أشرنا فى مقالنا أمس، إلى أن خطاب سلامة موسى التغريبى لم يكن مأجورًا أو منطلقًا من تعصب ملي، بل كان مدفوعًا برغبة الأنا المفكرة فى إثبات الوجود وسط مجتمع زاخم بالعماليق فى الفكر وأعلام فى الأدب وعشرات الأفكار والرؤى والاتجاهات والمذاهب، ويمكننا أن نلاحظ فى قراءتنا لخطاب سلامة موسى أنه يلجأ إلى (الإحالة) فى جل الأنساق التى يريد هدمها (فكرة الألوهية، الحجاب، اللغة الفصحى، الوحدة الإسلامية، الطائفية، الثقافة العربية). ويؤخذ عليه عدم دقته فى تأصيل المعارف أو تحليل النظريات بالإضافة إلى التعجل فى إصدار الأحكام، فمعظم إحالاته التى هوى عليها بمعوله متمردًا وثائرًا، لم تكن سوى نظرات بعيون غربية تفتقر إلى الحيدة والموضوعية والدراسة العلمية، أى أنه لم يستطع استخدام المنهج البنيوى للكشف عن صحة إحالاته. وكان يلجأ (للإشارة) للتعبير عن الواقع واستشراف المستقبل ممتطيًا جياد المغامر الذى لا يحسن الفصل بين الحقيقة والسراب (تربية سلامة موسى، عقلى وعقلك، أحلام الفلاسفة، هؤلاء علموني، مقالات ممنوعة، اليوم وغدًا). أما الأسلوب الرمزى فلم يستخدمه إلا فى كتاباته القصصية – التى لم يُلق الضوء عليها بعد- وقد جمع فيها بين التلخيص والتأليف مثل (الطريق من الأرض للسماء لـ سلمى لاجرلوف، قيمة الحياة، وهى من إبداعاته وقد نشرها فى المجلة الجديدة فى أخريات العشرينيات). وقد لجأ مفكرنا أيضًا إلى التناص وذلك فى مقولته «كن رجلًا ولا تتبع خطواتي» وهى تناص مع قول المسيح «من لا يأخذ صليبه ويتبعنى فلا يستحقني» أو إن شئت قل تضمينا لقول فولتير «قد أختلف معك فى الرأى ولكنى مستعد أن أدفع حياتى ثمنا لحقك فى التعبير عن رأيك». 
وحسبى أن أؤكد أن نكوص سلامة موسى وتراجعه عن الكثير من آرائه لا يُعد انكسارًا أو تراجعًا فى العديد من كتاباته، بل هو درب من دروب التفكيك الذى يعول على الذات الواعية الشاعرة فى إصدار الأحكام أو تبنى الرؤى أو التحمس للنظريات، فطالما أكد سلامة موسى على التثقيف الذاتى وأن آراءه تعبر عن قناعاته الشخصية فحسب.
أجل كان خطاب سلامة موسى تنويريًا لأنه كان بمثابة الحجر الذى ألقى فى بركة ثقافة الرجعيين ليبدد جمودهم وراديكاليتهم وعداءهم للغرب. ولا أكون مبالغًا عندما أقول إن أثر خطابه ما زال حيًا فى جل كتابات العلمانيين المعاصرين فى شتى أنحاء الوطن العربي، ولا أكاد ألمح رأيًا واحدًا فى كتاباتهم فى قضايا الفكر العربى إلا وكان مسخًا من خطابه. ورغم ذلك فإن ثقافتنا المعاصرة تفتقر إلى المناخ الذى حوى خطاب سلامة موسى التنويرى بما فيه من جنوح وجموح، وذلك لجهل وعنف الاتجاه المحافظ الرجعي، وغيبة الاتجاه المعتدل المستنير، أعنى أن المسرح الثقافى غير معد للتساجل العلمي، الأمر الذى يستوجب فرض العديد من القيود على المتعالمين والأقزام المتعملقين وتجار الكلمة. ولن تنعم مصر والثقافة العربية بهذا الزخم الذى أنتج خطاب سلامة موسى إلا بعودة الطبقة الوسطى لتحمل رسالتها النهضوية من جديد.