الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

وعد بلفور.. مائة عام من الاحتلال

بلفور فى القدس
بلفور فى القدس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عبر أفلام ومعارض فنية وكتب وماراثون ووقفات احتجاجية أمام سفارات إسرائيل وبريطانيا بعواصم العالم، دشن الفلسطينيون واللاجئون العرب حضورًا واعيًا هذه المرة بالذكرى المئوية لوعد بلفور "المشئوم" والذي ترتبت عليه النكبة المروعة، والأهم أنهم استبقوا تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التي تشعر بالفخر لمساهمة بلادها بتأسيس وطن قومي لليهود ممثلًا بإسرائيل، ومعلنة احتفالات تواكب ذكرى الوعد، مطلع نوفمبر الحالي، بحضور إسرائيلي سياسي وثقافي بارز، في تحدٍّ للقيم الإنسانية جمعاء!

لم يقف العرب هذه المرة أمام الموقف المطالِب فقط بالاعتذار أو حتى التعويض، بل راحوا يؤكدون عبر تلك الحملة التي نظمها "المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج" حقيقة إسرائيل كدولة تقوم بدور وظيفي للاستعمار الغربي، وأطلقوا "هاشتاج" يغرد عليه آلاف المتضامنين حول العالم باسم "بلفور 100"، وقد وافقت الساعة الثامنة أمس بتوقيت القدس كساعة ذروة رقمية تلفت نظر العالم للقضية.
وأكدت وثائق الحملة أن إسرائيل نشأت لحماية مصالح القوى الكبرى بالمنطقة وتفريغ أوروبا في هذا الوقت من إزعاج الأقليات اليهودية وضمان دعمها لفوز الحلفاء بالحرب العالمية، ولهذا أيضًا عكست البانوراما التي أعدتها الحملة عبر ملفات واعية وكتب جديدة صادرة بمئوية بلفور، زيف التصور العالمي السائد بأن اختيار فلسطين وطنًا لليهود جاء ثمرة وعد بلفور، أو أن الوعد محصّلة ضغوط يهودية على بريطانيا، لتكشف الحملة عبر الوثائق كيف زيف قادة الحركة الصهيونية الإرادة اليهودية وحصروها بحلم قومي لم يطلبه سوى أعداد قليلة، وكيف تواطأت القوى الاستعمارية ومنها بريطانيا وفرنسا وأمريكا بل والفاتيكان راعي الأماكن المقدسة المسيحية بفلسطين، في تحرير وإعداد هذا الوعد الذي يعطي بموجبه من لا يملك لمن لا يستحق.
تبعت ذلك مجازر وترويع وتهجير للفلسطينيين أصحاب الأرض، لا تريد بريطانيا تذكرها اليوم وهي تحتفل بحضور بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، خاصة أن كفوف يده لا تزال ملطخة بالدماء!
وشهدت فلسطين مسيرة متضامنين بريطانيين من أصحاب الضمائر للقدس المحتلة سيرًا على الأقدام، عبر رحلة شاقة بدأت قبل أكثر من 135 يومًا من وصولهم، والتي طافت أرجاء فلسطين للتعريف بحياتها اليومية وقسوة الاحتلال وتزويره للتراث وسرقته للمياه وقتله للأبرياء وتكميمه للأفواه. كما تلقت السفارة البريطانية بالقدس رسالة احتجاج من 100 ألف طفل فلسطيني ضد عزمها الاحتفال ببلفور على ما تبعه من عنصرية مقيتة.

وأطلقت حملة "بلفور 100" صافرة للمتضامنين العرب فنظموا وقفات احتجاجية شهدتها عواصم، منها بريطانيا وهولندا والدنمارك، ومن العالم العربي الأردن وتونس وعلى الحدود اللبنانية مع إسرائيل، ورفعت الحملة على موقعها الذي دشنته باسمها وروّجه النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورًا تاريخية لمؤامرة بلفور و"كاريكاتير" يعبر عن حقيقته وأفلامًا وثائقية وجدولًا بالأنشطة الفكرية والفنية المقامة حول العالم بالتنسيق مع الحملة، والتي تركز أغلبها ببريطانيا التي تشهد مظاهر الاحتفال ببلفور وتعد نفسها راعيه الرسمي.
قرن من الانتهاكات المروعة
تستعد إسرائيل لتنظيم معارض ثقافية؛ احتفاء بوعد إنشائها؛ وتشاركها سفارات غربية، في حفلة اعتزاز بكل الدماء التي أريقت لعيون هذا الاستعمار، متناسين أكثر من 6 ملايين فلسطيني اضطر للعيش بالمنفى بعيدًا عن وطنه، وملايين آخرين يعيشون بأجواء كابوسية فرضتها دولة الاحتلال، خاصة وقد تحول قطاع غزة والضفة الغربية لسجن كبير يخضع ساكنوه للتدمير المنظم، ووسائل الإعلام حافلة بصور الأبرياء ممن يقتنصهم الجنود الإسرائيليون لمجرد "الشبهة"، وحتى بدونها
وفي مقال نشره الرئيس الفلسطيني محمود عباس بصحيفة "الجارديان"، أبدى أسفه من احتفال بريطانيا بوعد أُسس لاغتصاب حقوق شعبه؛ ففي 1948 قامت الميليشيات الصهيونية بطرد أكثر من 800،000 رجل وامرأة وطفل من وطنهم بالقوة، وارتكبت مذابح مروّعة ودمرت مئات القرى، وقد كان عمره 13 سنة في وقت طرد عائلته من "صفد". لكنه أكد حقائق مبشرة بأن يتحرك برلمانيون لصالح الاعتراف بدولة فلسطين والاعتذار الذي قدمته منظمات غير حكومية وجماعات تضامن بالشوارع.
وأكد أبو مازن أن فلسطين الحالية مقامة على 22% فقط من الوطن التاريخي، ورغم تنازلها بمفاوضات والقبول بفكرة حل الدولتين لأجل حقن الدماء لكن الطرف الإسرائيلي كان دائم الخداع والانتهاك للقانون الدولي. 
وأشار الرئيس الفلسطيني إلى أن إسرائيل يجب أن تعلم أن كفاح شعبه لأجل الحرية سيستمر مهما طال المطاف، وأنهم حاليًّا يعملون لتكريس دولة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ودون ذلك لن يكون هناك سلام عادل دائم بالشرق الأوسط
ورتبت بريطانيا احتفالية كبرى بمناسبة بلفور؛ وبزيارة موقعها تبين أنهم يشجعون المسيحيين واليهود لحضوره بقاعة البرت هول الملكية، 7 نوفمبر المقبل، وبحضور موسيقي وغنائي ودرامي ومشاركة مثقفين وفنانين أوروبيين وإسرائيليين بارزين، ومنها الأوركسترا المسيحية البريطانية، ومعهد الرقص الإسرائيلي، وعازف الكمان العالمي سيرجي بوبوف، والمغني الإسرائيلي كورين، كما تعهدت بجولة سياحية لإسرائيل وعرضت برنامجًا متكاملًا وبالطبع استنادًا لكتيب سياحي يزور الآثار الفلسطينية وينسبها لدولة الاحتلال
ونادت الدعوة للاحتفالات بما زعمت أنه رباط مقدس مسيحي يهودي من الكتب السماوية وقالت: إنها لا يعنيها السياسة، لجذب المزيد من الترويج للحفل، كما أعدت برنامجًا مصاحبًا لزيارة بريطانيا ومتاحفها اليهودية والصهيونية وغيرها من الأنشطة.

حقيقة بلفور الغائبة
نجحت فعاليات حملة "بلفور 100" في كسب رأي عام أوروبي سارع لحضور أنشطتها المنطلقة قبل أشهر بالعواصم العالمية، والتي يبدو من خلال زيارة موقعها حجمُ الجهد المبذول فيه
لكن الأهم هو الورقة التي أعدتها رنا الضامن، الكاتبة ومنتجة الأفلام والتي حملت أفكار عبدالوهاب المسيري بالأساس والعديد من الوثائق المؤكدة لحقيقة وعد بلفور كنشاط يخدم الاستعمار الغربي، وليس وعدًا ليهود مضطهدين!
ولم يكن وعد بلفور الذي أيدته عصبة الأمم بزعامة الدول الخمس الكبرى "بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأمريكا واليابان"، هو الأول من نوعه، فقد سبقه وعود بلفورية أخرى، ومنها وعد نابليون لليهود عام 1799 خلال حملته على الشرق والتي انتهت بالفشل، وتصريح عام 1841 جاء من قنصل بريطاني في دمشق تشالز هنري تشرشل، إلى رئيس يهود بريطانيا موسيس حاييم، تضمنت خطة متكاملة لتوطين اليهود في فلسطين.
وبدأ المشروع وتأسست مستعمرات بريطانية يهودية في فلسطين عام 1860 لكن المستعمرات بقيت شبه فارغة، في نفس الفترة كان صهاينة مسيحيون من فرنسا وألمانيا وروسيا وأمريكا يؤسسون مستعمرات متناثرة في فلسطين.
لكن صاحب كتاب "المسيح قادم" الصهيوني المسيحي الأمريكي وليام بلاكستون، كان محرك أول مؤتمر سياسي في أمريكا تحت عنوان "ماضي وحاضر ومستقبل إسرائيل" وعقد بشيكاغو 1890 داعيًا لتمكين الإسرائيليين من فلسطين.
كان ذلك قبل خمس سنوات من نشر الصهيوني اليهودي تيودور هيرتزل كتابه "دولة اليهود"، بعدها جاء تصريح بلفوري ألماني إلى الحركة الصهيونية عام 1889 أن قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني سيناقش صديقه العثماني عبدالحميد الثاني في أمر "توطين اليهود" في فلسطين، وكان راغبًا في إفراغ ألمانيا منهم، لكن اسطنبول رفضت الفكرة.

وتكررت التصريحات البلفورية، ومنها عام 1903 على شكل رسالة وجّهها وزير داخلية روسيا القيصرية فون بليفيه إلى هرتزل جاء فيها أنهم يريدون التخلص من المعدمين اليهود وأنه "تستطيع الصهيونية أن تعتمد على تأييد معنوي ومادي من روسيا"، ثم جاء مشروع بلفور في العام نفسه لتوطين اليهود بكينيا، لكن الوثائق تثبت أن غالبية اليهود لم تكن مكترثة بالفكرة الصهيونية.
واختير الكيميائي الروسي الأصل حاييم وايزمان حلفًا لهريتزل بقيادة الحركة الصهيونية اليهودية الحديثة، وفي عام 1907 زار وايزمان فلسطين لأول مرة، وشارك بتأسيس الاتحاد الصهيوني لشركة تطوير أرض فلسطين التي تهدف لشراء مزيد من الأراضي أثناء الحكم العثماني وتوطين مزيد من الصهاينة، وقد وصل إلى فلسطين بين 1882 و1907 حوالي 20 ألف مستوطن يهودي صهيوني من شرق أوروبا واليمن، واستوطنوا في حوالي 30 مستوطنة.
وبدأ الاهتمام البريطاني الرسمي بتوطين الصهاينة مع الحرب العالمية الأولى، للتخلص من الفائض اليهودي وتأسيس دولة وظيفية تحرس مصالحها في موقع جغرافي استراتيجي، كما تخدم الفكرة اللاهوتية أن على اليهود أن يعودوا لتأسيس مملكة الرب، وتعجيل "الخلاص" و"عودة المسيح"
وكان وزير الخزانة آنذاك ديفيد لويد جورج من العاملين الكبار بالمشروع، كما كان صموئيل حاييم وايزمن الوزير البريطاني اليهودي الصهيوني صاحب مشروع توطين 4 ملايين صهيوني يهودي وقد عرض الفكرة على القيادي اليهودي روتشيلد في فبراير 1915 قبل أن يتوفى الأخير بشهر
وفى أوائل عام 1916 قال بلفور لوايزمان: "عندما يسكت صوت البنادق سيكون بإمكانكم الحصول على القدس" ولاحقًا سيزيح الوزير الصهيوني ديفيد لويد جورج، رئيس الوزراء البريطاني آسكويث، الذي لم يصدر التصريح، ورقى مارك سايكس مهندس سايكس بيكو لسكرتاريا حكومة الحرب، وكلفه بملف الشرق الاوسط، وسيصدر الصهاينة في مانشستر لأول مرة ملفًّا بعنوان فلسطين يوزع في 26 يناير 1917.
بدأت اللقاءات الماراثونية بين سايكس والحركة الصهيونية، وكان ناحام سوكولو يصف اجتماعًا بين سايكس وصموئيل ووايزمن وروتشيلد بمنزل الصهيوني موسس جاستري 7 فبراير 1917 والذي كتبت خلاله المحاور الأساسية لنص تصريح بلفور. وتردد على المنزل وينستون تشرشل الذي كان صهيونيًّا، وكان واضحًا أن بريطانيا ستتحمل ثقل مساعدة الصهيونية وليس فرنسا أو ألمانيا، وكان المطلوب هو تسويق الخيار بأوروبا وأمريكا وعرف "سايكس" ببوابة الأمل لجهوده المكوكية بهذا الإطار
ولم تكن الصهيونية قادرة على تحقيق "وطن قومي لها"؛ لأنها لم تكن تملك القوة العسكرية لتحقيق ذلك، لكن جابوتنكسي، الذي كان أكثر صراحة من أصدقائه الصهاينة قال: "الصهيونية محمية استعمارية، وهي تقف أو تنهار بناء على مدى القوة المسلحة".

وبسعي السياسيين المخضرمين ناحوم سوكولو وسايكس بيكو، حظيت الصهيونية بدعم الفاتيكان شفهيًّا، وكانت خطوة مهمة لسيطرته على العديد من الأماكن المقدسة المسيحية في فلسطين، كما أصدرت فرنسا تصريح بلفور الفرنسي يونيو 1917 المتعاطفة مع الصهيونية، وعرفت برسالة كامبون، وهي رسالة موجهة من الدبلوماسي الفرنسي جولس كامبون إلى القيادي الصهيوني ناحوم سوكولو، وجاء منها "إن الحكومة الفرنسية، والتي دخلت الحرب الحالية للدفاع عن شعب هوجم ظلمًا، والتي ما زالت تصارع لضمان النصر للحق فوق القوة، لا تستطيع إلا التعاطف مع قضيتكم".
لاحقًا سعى حاييم ويزمان لتهميش دور ناحوم سوكولو، ونسيان وثيقة كامبون وتذكر فقط وثيقة بلفور لكي يبقى لاعب دور البطولة، وحرصت الحركة الصهيونية على أن ترسم التصريح كأنه نتيجة ضغط على بريطانيا، والصحيح أنه بمثابة عمل مشترك من القوى الاستعمارية باستخدام الصهيونية رأس حربة في استعمار فلسطين. ويقول بروفيسير التاريخ اليهودي ماير فيرتي: لو لم تكن الصهيونية موجودة لاخترعتها بريطانيا لأجل تحقيق مصالحها الخاصة
يُذكر أن الحملة "بلفور 100" تناقش بعواصم أوروبا كتبًا صادرة حديثة بمئوية بلفور، منها "ظل بلفور" لديفيد كرون الصحفي بالجارديان، وأفلام مهمة، منها "ماذا وعد ولمن؟"، وأفلام تُظهر عنصرية إسرائيل، إضافة لنقاشات "العدالة الآن" بساحة الهايد بارك ببريطانيا، ومارثون "قمر تحت البحر" للركض بأريحا الفلسطينية، كما لم تكتف بدول أوروبا والدول العربية بل وصلت لجنوب إفريقيا بملصقات ووقفات.
واستلهم المغردون روايات عربية شهيرة قدمت النكبة الفلسطينية، ومنها أعمال إبراهيم نصر الله "أعراس آمنة" و"جبال كلمنجارو"، و"الطنطورية" لرضوى عاشور، "ولدت هنا ولدت هناك" لمريد البرغوثي، "أرض البرتقال" و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، إلى جانب تراث الأشعار التي عبّرت عن القضية وتصدرتها أشعار محمود درويش.