الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

اليهود في عالم نجيب محفوظ

 نجيب محفوظ  ومصطفى
نجيب محفوظ ومصطفى بيومي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«حميدة» تتخذ من اليهوديات مثلًا أعلى.. وعلاقات عاطفية بين بنات يهوديات وشبان مسلمين
السمسار اليهودي شيطان مفيد.. وعدو ما من صداقته بُد
ليس موضوعنا هنا دراسة الصراع العربي الإسرائيلي في أدب محفوظ لكننا نتوقف أمام صورة اليهودي في الحياة المصرية قبل إعلان دولة إسرائيل
فى «قشتمر»، يقول الوفدي المتطرف إسماعيل قدري للأصدقاء من أفراد شلته:
- «في مصر أربعة أديان، الإسلام والمسيحية واليهودية والوفد.
ويرد طاهر عبيد ساخرًا:
- والدين الأخير أعظمها انتشارًا!» 
للحوار الساخر بعده السياسي، حيث الكشف عن مدى الأغلبية التي يتمتع بها حزب الوفد في الشارع المصري قبل ثورة يوليو 1952، لكن ما يعنينا هنا هو الوجود المعترف به لليهودية في مصر، فهي ثالث الأديان السماوية بعد الإسلام والمسيحية.. هذا الوجود الشرعي العلني لا ينفي أن الموقع الذي يحتله اليهود، في عالم نجيب محفوظ، يختلف جذريا عن الذي يحظى به المسيحيون، بل إن فكرة المقارنة غير قائمة.. المصريون المسيحيون جزء أصيل من النسيج الوطني المتماسك، واليهود ليسوا كذلك، وغير قابلين للذوبان.

هامش النسيج
قبل حرب ١٩٤٨ والإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كان اليهود، المصريون منهم والوافدون، جزءا من إيقاع الحياة اليومية، لكنهم - في الوقت نفسه - يمثلون خصوصية تجعلهم بعيدين عن تقبل المجتمع لهم بشكل كامل.. في «زقاق المدق»، تتجلى هذه الخصوصية عبر شخصيات متباينة تعبر عن الموقف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي من اليهود: حميدة، المعلم كرشة، صاحب الوكالة، السيد سليم علوان.
تقول حميدة لأمها بالتبني، معبرة بكلماتها العفوية عن الطموح غير المحدود الذي يسكنها:
- آه لو رأيت بنات المشغل! آه لو رأيت اليهوديات العاملات! كلهن يرفلن في الثياب الجميلة. أجل.. ما قيمة الدنيا إذا لم نرتدِ ما نحب؟
وترد الأم باستياء:
- أفقدتك مراقبة فتيات المشغل واليهوديات عقلك، وهيهات أن يهدأ لك بال.
الفتيات العاملات في المشغل خليط من المسلمات والمسيحيات واليهوديات، وكلهن مصريات، لكن التركيز كله ينصب على النموذج «اليهودي» دون «المصري»، مسلما كان أم مسيحيا.. اليهودية هى المثل الأعلى والقدوة، والفتاة المصرية - المسلمة والمسيحية - التى تجبرها الظروف الاقتصادية القاسية على العمل، تسعى إلى تقليدها والتمثل بها: ومضين على أثر اليهوديات في العناية بالمظهر وتكلف الرشاقة، ولذلك تقول حميدة لأمها وهي تتنهد:
- حياة اليهوديات هي الحياة حقا!.
يتم الحديث عن الفتيات اليهوديات كأنهن لسن مصريات، فهن أقرب إلى الانتماء إلى جنس مختلف، وحضارة مغايرة، وثقافة لا صلة لها بالسائد في الواقع المصري!
هذه الممارسة، على الصعيد الاجتماعى النسائي، تظهر بطريقة مغايرة على الساحة الاقتصادية التجارية، وهو ما نجده عند السيد سليم علوان، التاجر الثري صاحب الوكالة، ولا متسع في عمله للتمييز بين العملاء على أساس العقيدة الدينية بطبيعة الحال، لكن لليهود منهم خصوصية لا يمكن إنكارها أو إهمالها: «وقد جلس إلى مكتبه مركزا انتباهه كله في كلام سمسار يهودي، مستجمعا يقظته، مستحضرا حذره، يعجب لرقة محدثه ولطفه، حتى ليحسبه الجاهل صديقا ودودا، وهو فى الحقيقة نمر يتوثب، يتمسكن ويتمسكن حتى يتمكن، والويل لمن يتمكن منه.. وقد علمته التجارب أن هذا الخواجة وأمثاله أعداء ما من صداقتهم بُد، أو أنه - على حد تعبيره - شيطان مفيد»!.
يوصف السمسار منذ البدء بأنه يهودي، دون إشارة واضحة محددة إلى جنسيته، فهل يعني هذا أن السماسرة من غير اليهود أقل شراسة وقدرة على الخداع؟. الإجابة بالنفي، ذلك أن المهارة التجارية لا شأن لها بالدين.. قد يوحي ظاهر اليهودي الذي يحاوره سليم باللطف والصداقة والمودة، لكنه من منظور التاجر المصري الحذر أقرب إلى النمر المرعب والشيطان جالب الأذى والضرر.
أهى صفقة تجارية أم معركة حربية؟!
المصريون اليهود، واليهود في مصر، مختلفون عن المصريين الآخرين من المسلمين والمسيحيين، وغير مندمجين على المستويين: الاجتماعي النسائي، والتجاري الاقتصادي؛ وكان ذلك قبل اشتعال حرب ١٩٤٨ وإعلان قيام دولة إسرائيل.
الأمر نفسه نجده على الساحة السياسية، ففي ثورة ١٩١٩ تتحقق عمليًا فكرة الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، دون اليهود، وفي التاريخ القريب للمعلم كرشة ما يبرهن على ذلك: «اشترك في ثورة سنة ١٩١٩ اشتراكا فعليا عنيفا، وقد نُسب إليه الحريق الكبير الذي التهم الشركة التجارية اليهودية للسجاير بميدان الحسين، وكان من أبطال المعارك العنيفة التي دارت بين الثوار من ناحية وبين الأرمن واليهود من ناحية أخرى».
عندما يتوقف المعلم كرشة عن «النضال» الوطني، ويقرر اعتزال العمل «السياسي»، فإنه يكف عن كراهية الأعداء القدامى جميعا: «لم يعد يكره أحدا، لا اليهود ولا الأرمن ولا الإنجليز أنفسهم»! 
لا شك أن العداء للإنجليز مفهوم مبرر، لأسباب وطنية واضحة، أما الإشارة إلى اليهود والأرمن، فتعنى أنهم مختلفون وليسوا مصريين خالصين.
علاقات حميدة وسليم علوان وكرشة مع اليهود، تجسيد دال في الكشف عن الصورة النمطية لليهودى عند نجيب محفوظ في عموم عالمه، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.

تباين اجتماعي
على مستوى السلوك والقيم الاجتماعية، تختلف البنات اليهوديات عن المسلمات والمسيحيات، ويتجلى ذلك الاختلاف بوضوح في حوار رشدي عاكف، في «خان الخليلي»، مع أصدقائه المقربين في كازينو غمرة، بعد عودته من الغيبة الطويلة في أسيوط:
- الحال هنا بات قريبًا من الريف، فجنود الحلفاء يلتهمون اللحوم والفاكهة والنساء!
وقال آخر:
- واليهوديات عرفن أخيرا مزايا اللغة الإنجليزية.
- تراهن يرفلن في الحرير، فإذا اعترضت سبيل إحداهن، رمتك بنظرة شذراء وقالت لك بلهجة أسكتلندية صحيحة: Behave like a gentleman please.
- يا إخواني... لقد ظلمتم بعض اليهوديات وبعض الخوادم، والحقيقة أنهن هالهن ما رأين من عدم اشتراك الأمة في الحرب، فساهمن في قضية الحلفاء بأعراضهن!».
ألا يُفهم من الحوار أن دور الفتيات اليهوديات، في حياة الشباب اللاهي، كان مختلفا قبل الحرب؟ كن بالضرورة الأسهل والأقرب منالا، والأكثر انفتاحا مقارنة بالمسلمات والمسيحيات المحافظات المتحفظات الأخلاقيات، غير المتاجرات بأعراضهن!
ليس أدل على الحراك العاطفي الإيجابي لليهوديات من تلك العلاقة التي تقيمها واحدة منهن، في الرواية نفسها، مع أحمد عاكف، الذي يتسم بالسلبية والانطوائية والخجل: «كان غلاما ناضرا متأنقًا، ولعله ورث الأناقة من والدته، فجذب إليه يهودية صغيرة حسناء من بنات الجيران. ولكنه على رغم خجله طارحها الغرام صراحة بفضل جسارتها هي.. كانت جسورا لعوبا لا يردعها عن هواها رادع، فاستطاعت أن تعالج حياءه بجسارتها، وتبعته ذات أصيل حتى أدركته ثم نادته فالتفت إليها بوجه كالجمان، فابتسمت إليه ابتسامة لطيفة، فأجابها بابتسامة مقتضبة فى حياء خفر فقالت له: هلم نتمشى في شارع عباس! فأطاع دون أن ينبس بكلمة وسارا جنبا إلى جنب والشمس تتقدمهما نحو المغيب. تعمدت أن تدنو منه وأن تلامسه فى رفق، فجعل يبتعد كأنما يخاف أن تحسب أنه المتعمد وهو يذوب شوقا إلى اللمس الذي يجانبه.. ثم تأبطت يمناه وهي تضحك ضحكة لم تخل من الارتباك، فطرفت عيناه ونظر فيما حوله بخوف فسألته في دعابة: أتخاف؟ فقال بصوت رقيق: أخاف أن يرانا أحد من بيتك، فهزت كتفها استهانة وقالت: لا تبال هذا، فلاحت فى عينيه نظرة عجب فاستدركت متسائلة: أما تزال خائفا؟ فقال بعد تردد: أخاف أن يرانا أحد من بيتنا!».
علاقات الجيرة قائمة بلا عوائق بين المسلمين واليهود، ومشروع قصة الحب بين المسلم واليهودية لا يتوقف عند التباين الديني. لا تكمن المشكلة فى الدين، لكنها فى خجل وانطوائية وتقليدية الشاب المتردد أحمد عاكف، مقارنة بإقدام وشجاعة وعصرية الفتاة اليهودية مجهولة الاسم، فهي جسورة لعوب صاحبة قدرة لافتة على المبادرة والاقتحام.. لا تبالي أن يعرف أهلها، ويخاف أن يراه أحد من أفراد أسرته.. إنه سلبي إلى الدرجة التي لا يفكر فيها أن يقبلها، بل إنه يتلعثم ويتردد طويلا قبل أن يستجيب لإغرائها ودعوتها الصريحة له أن يفعل!
لا تستمر قصة الحب بينهما، ولا يمكن لها أن تستمر في ظل التباين والاختلاف الجذري: «اختفت اليهودية الحسناء من حياته فجأة، فما هو إلا أن خطبها شاب من بني جنسها حتى هجرت لعبتها لتستقبل حياة الجد، غير عابئة بالجرح الدامي الذي أحدثته في قلب غض!».
لو أن هذه الجارة الحبيبة مسلمة أو مسيحية، لكان من المنطقى أن تُخطب لشاب من «بنى دينها» وليس من «بنى جنسها»، لكن التعامل مع اليهود مختلف دائما، والتسليم باندماجهم فى النسيج المصرى الوطنى ليس خالصا أو مسلما به!.
إذا كانت علاقة أحمد عاكف مع جارته اليهودية تحظى ببعض الاهتمام، وتسهم في الكشف عن طبيعة الشخصية الانطوائية السلبية، فإن على يوسف في قصة «أسعد الله مساءك»، مجموعة «صباح الورد»، يرتبط بعلاقة حب مماثلة مع يهودية أخرى: «اختفت في مطلع الحرب العظمى الثانية».
التفاصيل غائبة، والعاشق المصري المسلم ليس إلا شخصية هامشية محدودة الوجود والتأثير.

ضد الذوبان
في التعداد العام لسكان مصر سنة ١٩٢٧، يبلغ عدد اليهود الذين يشملهم الإحصاء «٦٣.٩٥٣»، وتتركز إقامتهم في مجموعة من أحياء القاهرة. يأتى حي «الوايلي» في الصدارة، وهو الحي الذي يضم «القبيسي» و«السكاكيني» و«العباسية» و«غمرة» و«كوبري القبة». اللافت للنظر، في «خان الخليلي»، أن أعضاء شلة رشدى من السكاكيني، وعلاقة أحمد العاطفية المبكرة مع فتاة يهودية من الحى نفسه. التواجد الكثيف نسبيا لليهود فى هذا الحي، تضفى عليه «سمعة يهودية» تدفع المسلمين من ساكنى منطقة الحسين إلى تبرير استثناء حى السكاكينى من المعاملة الخاصة التي يتعامل بها النازيون الألمان مع المسلمين ساكنى الأحياء الأخرى!
في المخبأ، يدور حوار طويل بين الهاربين من جحيم الغارات الألمانية العنيفة، ويدافع أحدهم عن الزعيم النازي هتلر، الذي يُقال إنه يبطن الإيمان بالإسلام!، فيسأل آخر:
- فكيف ضُربت القاهرة فى منتصف هذا الشهر؟
ويأتى التبرير والدفاع:
- ضُربت السكاكيني وهو حي غالبية سكانه من اليهود!
تنحاز الأغلبية الشعبية إلى دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، نكاية في الإنجليز، ويصل التعاطف غير المنطقي إلى الدرجة التي تُبرر فيها الغارات على القاهرة، لأنها تستهدف حيًا تسكنه أغلبية يهودية!. المغالطة واضحة صريحة، فاليهود لا يمثلون أغلبية في أي من أحياء القاهرة، والدلالة الأهم في الدفاع تتمثل في التأكيد على أن القطاع الأكبر من المصريين البسطاء محدودي التعليم والوعي لا يتعاملون مع اليهود على اعتبار أنهم جزء من النسيج الوطني.
الاختلاف الجذري العميق في القيم والسلوك يفسر الموقف السلبي، وليس أدل على ذلك مما نجده في «حديث الصباح والمساء». تقيم سميرة عمرو عزيز في حي الظاهر بعد زواجها: «وجاء ذلك مناسبا لها تماما، فصادقت كثرة من الأسر اليهودية، وتعلمت العزف على البيانو، وربت كلبة لولي!».
حيث توجد التجمعات والأسر اليهودية، تبدو الأخلاق مختلفة تماما، والسلوكيات مفارقة للسائد المألوف في الأحياء الشعبية المحافظة التي لا يصادق سكانها أحدا من اليهود، ولا يعزفون على البيانو، ولا يعرفون ترف تربية الكلاب المدللة.
وتكتمل الصورة الاجتماعية الشائعة عن اليهود في الحياة المصرية، كما يقدمها نجيب محفوظ، عند تأمل رؤيته لكيفية تعامل المصريين مع «فكرة» اليهودى وتصورهم عن «نمط» الحياة اللصيق به والمميز له.
لماذا تعترض خديجة عبدالجواد، فى «السكرية»، على زواج ابنها أحمد من سوسن حماد؟! خليط من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية المتشابكة: «ذهبت لزيارة بيتها كما تقضى العادة. قلت أرى عروس ابني، فوجدتهم يقيمون في بدروم في شارع كله يهود على الصفين»!
اللافت للنظر في كلمات خديجة، أن مجرد معاشرة اليهود والاختلاط بهم، عن طريق الجيرة، «فعل» يستحق الإدانة ويستوجب الرفض!
وفي قصة «الشريدة»، مجموعة «همس الجنون»، يصف الراوي حديث صديقه البارع بأنه قصة مستوفاة العناصر: «ومثل هذا الحديث يستبد بمشاعري استبداد المال بقلب اليهودي الشحيح».
ليس استبداد المال بقلب الشحيح، لكنه الاستبداد بقلب «اليهودى الشحيح»، فكأن اليهودى - بالضرورة - هو ذروة البخل، ومضرب المثل فى سلوك إنساني عام ينتشر بين أتباع الأديان كافة، وليس بين اليهود وحدهم.
واليهود فى «بداية ونهاية» شر يُضرب به المثل عند عتاة الأشرار من غير اليهود، مثل حسن كامل، الذي «يتفلسف» ليبرر قبول هدية جارهم فريد أفندي، وهي الهدية التي يراها إخوته أقرب إلى الصدقة:
- قبل النبي مرة هدية أهداها إليه يهودي، فهل يكون فريد أفندي شرا من اليهود؟!
فتساءل حسين في دهشة:
- من قال هذا؟
ويُجيب حسن بلا تردد:
- التاريخ!
اليهود شر لا يحتاج إلى مناقشة، ولا ينبغي أن يثير الخلاف. لا علم لحسن بالتاريخ، وغاية ما يريده هو التأكيد على استحالة أن يكون فريد أفندي أكثر شرا من اليهود.
ليس المعلم كرشة وحده من «يناضل» ضد اليهود، ذلك أن ماسح الأحذية والفتوة المتقاعد عشماوي، في «الحب تحت المطر»، يقول مباهيا مفاخرا: «فى شبابى كنت إذا اخترقت طريقا يختفى اليهود من جوانبه».
اليهود الهاربون من عشماوى في شبابه، هم الذين يؤسسون دولة إسرائيل ويحتلون سيناء فى حرب ١٩٦٧، وهم المسئولون عن قتل وإصابة العديد من أبناء الحارة الشعبية التى كان عشماوي نفسه حاميها.
يهودي أم إسرائيلي؟
ليس نادرا أن تُستخدم مفردة «اليهود» بديلا لكلمة «إسرائيل» في عالم نجيب محفوظ، ويتجلى ذلك بوضوح عند عيسى الدباغ فى «السمان والخريف». الوفدى عيسى ليس متعصبا دينيا، لكنه - بشكل عفوى تلقائى - لا يجد فارقا يستحق الاهتمام بين «اليهود» و«إسرائيل»، ولذلك يستخدم الكلمتين بمعنى واحد، ولا يعنى هذا بطبيعة الحال أن الصراع، على الصعيدين السياسى والعسكري، يدور بين المسلمين واليهود.
في قصة «ذقن الباشا»، مجموعة «الفجر الكاذب»، وهي بمثابة المشروع التمهيدي لرواية «قشتمر»، يتوالى رصد الأحداث الساخنة بعيني الراوي ولغته: «وهلت علينا مشكلات جديدة فتنوعت أحاديثنا بين الدستور والغلاء واليمين واليسار والملك والوفد والإنجليز والجلاء وفلسطين واليهود».
كلمة «اليهود» هنا علامة على إسرائيل، والاستخدام نفسه نجده فى «المرايا»، ففى سياق السخرية والتهكم، يتساءل عالم التراث عباس فوزي، فى حوار مع الراوى الحزين بعد هزيمة ١٩٦٧: «هل ثمة فارق حقا بين أن يحكمك الإنجليز أو اليهود أو المصريون؟!».
الإنجليز وليس المسيحيين، والمصريون وليس المسلمين، أما الإسرائيليون واليهود فكلمتان تؤديان معنى واحدا!.
ليس موضوعنا هنا دراسة الصراع العربي الإسرائيلي في أدب محفوظ، وهي قضية تحظى باهتمام كبير ويقدم فيها الروائي رؤية متميزة، لكننا نتوقف فحسب أمام صورة اليهودي في الحياة المصرية. قبل الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، كان اليهود يهودًا وليسوا مصريين خالصين، وبعد تأسيس الدولة لا يجد الكثيرون فارقا جوهريا بين كلمة إسرائيل واليهود.

اقتصاد وسياسة
من البدهي ألا يكون السيد سليم علوان، صاحب الوكالة في «زقاق المدق»، هو الوحيد الذي يتعامل تجاريا مع اليهود، وأحمد عبدالجواد، في «بين القصرين»، يعرف بدوره أقباطا ويهودا في الصاغة.. وإذا كان سليم يتعامل مع السمسار اليهودي بمزيج من الحرص والخوف، فإن بعض شخوص نجيب محفوظ يتطرفون في حبهم لليهود إلى الدرجة التي تجعلهم أقرب إلى اليهود!
الدكتور سرور عبدالباقي أخلاقي مثالي، وواحد من أفراد شلة الأصدقاء المتناقضين المتنافرين في «المرايا».. يضحك عندما يُذكر اسم الصديق عيد منصور، ويقول ساخرا:
- شيلوك.. عليه اللعنة!
شيلوك هو البطل اليهودي فى مسرحية «تاجر البندقية» لوليم شكسبير، وتتحول شخصيته ذائعة الصيت إلى رمز عالمي سلبي لليهودي الشرير المرابي.. عيد منصور مصري مسلم، لكن اللقب الذي يطلقه عليه الدكتور سرور، يتوافق مع جملة سلوكه وممارساته المفارقة للسائد المألوف بالنسبة للمصريين، مسلمين كانوا أم مسيحيين.. أبوه تاجر عمارات يعمل مع اليهود طويلا، واكتسب الكثير من أساليبهم ومهاراتهم، وجاء الابن على مثال أبيه الموصوف بأنه كان بخيلا، دقيقا فظا جامد المشاعر.. تترك المعاملات التجارية مع اليهود آثارها على شخصية عيد، الذي يرفع ويطبق شعارا عمليا يستمده من واقع خبرته وتجاربه: «لولا الإنجليز، لولا اليهود، ما كان لهذا البلد حياة!».
ولأنه لا حياة لمصر بغير اليهود، فإن حرب سنة ١٩٤٨ تمثل مشكلة بالنسبة لـ«عيد»، ويتخذ موقفا «نشازا» مقارنة بكل من يحيطون به: «وتجلت عواطفه العامة فى أبشع صورة يوم نشبت الحرب بيننا وبين اليهود عام ١٩٤٨، حتى خُيَّل إلىَّ أنه يكره وطنه لأسباب لا أدريها، أو أن مصالحه التجارية أفسدت عليه الميول التى نعتبرها فطرية».
هل يكره وطنه أم يحب مصالحه الشخصية؟. المسألة في إيجاز: إن مصلحته هى وطنه! ولذلك يتخذ الموقف الغرائبي نفسه أثناء العدوان الثلاثي، وما يتلوه من تداعيات وأحداث: «واختفى من الميدان كثيرون من أصدقائه اليهود.. حتى قال لي مرة:
- كم أتمنى أن أُهرَّب أموالي وأهاجر!
ولما قرأ الوجوم في وجهي قال:
- لم تعد مصر بالمقام الصالح للأذكياء!
ثم ضحك ضحكته القاسية وقال:
- لو لم أكن مصريا لتمنيت أن أكون مصريا!
الشعار الوطني الرومانسي للزعيم مصطفى كامل، جدير بسخريته وتهكمه، والتعاطف مع اليهود والإنجليز والأمريكيين ليس إلا تعبيرا دقيقا عن الانحياز الكامل لمصلحته الذاتية حيث تكون.. في هذا الإطار، يمكن فهم واستيعاب «حلمه الذهبي»: «أن تسيطر أمريكا على الشرق الأوسط وأن تحدد له مدارا حضاريا في مجالها الحيوى يلعب فيه العرب واليهود دورا متكاملا»!
السياسة عنده نشاط تابع للاقتصاد ومترتب عليه، والحلم الذهبي ترجمة واضحة لفكرة «المصلحة الذهبية»!.
ضرغام الهندي، أحد الذين يؤرخ لهم محفوظ في قصة «صباح الورد»، قريب الشبه من منصور والد عيد: «مسلم ورب أسرة مسلمة، ولكنه أقرب إلى اليهود. مهنته المعروفة هي الإقراض بالربا رغم إسلامه الرسمي، بل وصفه الكثيرون من أهل شارعنا بالملعون.. وابنته صافيناز على جمال ورشاقة، فعشقها يهودي من سكان السكاكيني وتزوج منها بعد إشهار إسلامه.. وسمعنا أنه تاجر أقمشة، وعلى درجة حسنة من الثراء، كما كان من المتعاملين مع ضرغام في حقل العمل».
الابن سيد يكرر حياة أبيه، مثل عيد منصور تمامًا، ويتخذ المواقف التي تتوافق مع مصلحته.. بعد ثورة يوليو: «وبمعاونة بعض أصدقائه من اليهود، هرَّب بعض أمواله إلى الخارج».
يرى سيد في هزيمة ١٩٦٧ عيدا، وكذلك الانفتاح الاقتصادي، ويدعو الله أن يبارك خطانا إذا اخترنا الارتماء في حضن الاستعمار الأمريكي!
عيد وسيد، وما أكثر وجوه الشبه بينهما، يختاران المصلحة الشخصية بلا تردد، فإذا كانت مع اليهود فإنهما أقرب إليهما من المسلمين والمسيحيين والوطن والوطنية جميعا.
لعل في السطور السابقة ما يكشف عن خصوصية اليهود فى الحياة المصرية، كما يعبر أدب نجيب محفوظ، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وهذه الخصوصية تنأى بهم عن الاندماج والذوبان.. قد يكون ما يقوله إسماعيل قدري، فى «قشتمر»، صحيحا فى مرحلة معينة، على الصعيد النظرى: «في مصر أربعة أديان، الإسلام والمسيحية واليهودية والوفد»! لكن الحقيقة العملية المؤكدة في المراحل كافة، أنه ليس في مصر من ديانات راسخة إلا الإسلام والمسيحية. اليهود ينشئون دولة مستقلة ويهاجرون من مصر ويتحولون إلى ذكرى، والوفد يتراجع ويتلاشى، ويستمر المسلمون والمسيحيون في نسيج واحد متماسك، وقد لا يخلو الأمر من بعض المشكلات والمنغصات، لكن النسيج الواحد لا يقبل التجزئة.