الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

زكي مبارك: "أمير القوافي" يصعب خلافته

زكي مبارك وأحمد شوقي
زكي مبارك وأحمد شوقي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رد الكنانة عبقري زمانه.. فتنظري يا مصر سحر بيانه / النيل قد ألقي إليه بسمعه.. والماء أمسك فيه عن جريانه / والقطر في شوق لأندلسية.. شوقية تشفيه من أشجانه"
هكذا كتب الشاعر العظيم حافظ إبراهيم، فرحا بعودة صديقه أحمد شوقي من المنفى، وهو من بايعه أميرا للشعراء بأبياته الخالدة: أمير القوافى قد أتيت مبايعا.. وهذى وفود الشرق قد بايعت معى 
وبالفعل فقد ملأ أحمد شوقي الدنيا بأشعاره والتي ظلت تخلد صوته ووجدانه وفكره حتى الآن، وقال زكي مبارك الناقد العملاق أن الشعراء ظلوا خاملين لأنه حي بينهم.
في ذكرى شوقي نتوقف عند كتاب أعدته ابنة زكي مبارك في "أحمد شوقي"، باعتباره أول ناقد ينصف شوقي بحياته كما وصف نفسه، وقد جمعتهما صداقة طويلة لم تعكرها "الهفوات"، وقد التقيا سنة 1914 لوضع حجر أساس الجامعة المصرية.
في كتابه، يتذكر زكي مبارك كيف ثار غضبه على شوقي حين نظم قصيدة تدعو لقبول مشروع ملنر، عام 1920، وكان زكي وقتها لا يزال بغياهب الاعتقال، ولما خرج كان أول ما كتبه هو مقالة في نقد شوقي، ولكن المحبة تأتي بعد العداء كما يقول المثل، وتكشف له بعد لقاءات لاحقة مزايا روحه، وقد وصفه بأنه مجنون الشعر؛ يهرب من الناس حين يشرع في النظم فلا تراه إلا هائما على وجهه من طريق إلى طريق.. وكان قلما يتحدث عن شعره وقلما ينشده. 
يقول زكي مبارك أن شوقي كان مفطورا على الشعر، والحياة في عينيه شعرية الملامح، كما أن آثاره يصعب تزييفها إلا بجهد عنيف، فشوقي ينم شعره عليه. وكان شوقي يعتبر أن أعظم قصائده هي النونية الآمونية، التي تمجد توت عنخ آمون، وفيها يقول: 
درجت على الكنز القرون وأتت على الدن السنون
في حين كان حافظ إبراهيم أن أعظم قصائد أمير الشعراء هي "البائية الكارنارفونية" وكان كارنافون عالما للآثار، وفيها يقول: 
أفضى إلى ختم الزمان ففضه وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى فرعون بين طعامه وشرابه
وقد كتب زكي مبارك فصولا مطولة عن شعر شوقي؛ ففي الطبعة الثانية من كتابه "الموازنة بين الشعراء" وازن بين شوقي وبين الحصري والبحتري والبوصيري والبارودي وابن زيدون. وهو يتذكر قصيدته التي يقول فيها للرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت وقد قال ما لم يحبه المصريون: 
أيها المنتحي بأسوان دارا كالثريا تريد أن تنقضا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشع لا تحاول من آية الدهر غضا
وفي كتاب "مدامع العشاق" قال زكي مبارك إن شعراء العصر قد أجادوا في وصف الأرق الطويل، ومنهم شوقي حين يقول: 
لم نفق منك يا زمان فنشكو مدمن الخمر ليس يشكوا الخمارا
وبحسب الكاتب فقد كان شوقي يخشى أن ينساه أهل مصر، وهو من كتب في نونيته: 
يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجي لواديك أم نأسى لوادينا
وكتب عن عظمة مصر والنيل: 
لم يجر للدهر أعذار ولا عرس إلا بأيامنا أو في ليالينا
ثم يقول شوقي بقصيدته:
وهذه الأرض من سهل ومن جبل قبل القياصر دناها فراعينا
ولم يضع حجرا بان على حجر في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام مصر حائط نهضت به يد الدهر لا بنيان بانينا
وقد كان يكتب من البيان البسيط ذلك النوع السهل الذي يفهمه سواد الناس كقوله: إنما الأمم الاخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
كما كتب زكي مبارك دراسة مطولة في حكمة شوقي، وهو القائل: "من صحب الحياة بغير عقل تورط في حوادثها اندفاعا" وكان شوقي دائم الحديث عن التعليم والجامعة والأزهر وهو صاحب البيت الذهبي: قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا 
لكن زكي مبارك يتذكر القطيعة التي جرت مجددا مع شوقي بعد اعتذاره عن كتابة مقدمة "الشوقيات" وكان يرى آنذاك أنها ستوجب عليه الترفق بصاحبه بحكم صلتهما، فغضب شوقي حتى أنه لم يدعه لمنزله بحفل استقبال شاعر الهند طاغور رغم دعوة أساتذة الجامعات المصرية، لكن زكي مبارك يقول بعد مرور الوقت أن "تلك الهفوة" لم تنقص تقديره لشوقي. وذهبت المقدمة لمحمد حسين هيكل فكتبها، وقد كان طه حسين وهو من خصوم شوقي يقول: لو جاءتني ما رفضتها لأنه أشعر العرب بعد المتنبي!
وبرغم حبه لمصر، يرى زكي مبارك أن عواطف شوقي ظلت منوعة الأصول، وقد سما بنفسه عن الشعوبية، ورأى أن يكون شعره ميراثا للشرق وهو القائل: 
قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه
وكتب لسوريا قصيدة أموية يذكرها بمجدها، وكتب في ثورة الشام: 
بني سوريا اطرحوا الأماني خرجتم تطلبون به النزالا
سلوا الحرية الزهراء عنا وعنكم هل أذاقتنا الوصالا
وقد أعد أهل زحلة اللبنانية حفلا لتكريم شوقيي، وكان بصحبته الموسيقار محمد عبدالوهاب، وفكري أباظة المفضل عند شوقي في إلقاء أشعاره، وقد صدح بقصيدته: 
يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك
والتي يختتمها بقوله: 
لبنان ردتني إليك من النوى أقدار سير للحياة دراك
نمشي عليها فوق كل فجاءة كالطير فوق مكامن الأشراك
وشوقي له أعذب الأبيات في الوجد والهوى وهو من كتب بالشوقيات: 
وروض كما شاء المحبون ظله لهم ولأسرار الغرام مديد
تظللنا والطير في جنباته غصون قيام للنسيم سجود
تميل إلى مضنى الغرام وتارة يعارضها مضنى الصبا فتحيد
وسنجد أن شوقي امتدح أتاتورك بعد انتصاراته على القوات اليونانية والإنجليزية بعد الحرب العالمية الأولى، وأسماه "خالد الترك" نسبة للصحابي خالد بن الوليد، وقال: الله أكبر كم في الفتح من عجب.. يا خالد الترك جدد خالد العرب
لكنه هجاه بقسوة بعد عزل السلطان عبدالحميد الثاني والإجراءات التي اتخذها ضد المظاهر الإسلامية بالبلاد كالحجاب والصلاة والأذان:
بكت الصلاة وتلك فتنة عابث بالشرع عربيد بالقضاء وقاح
أفتى خزعبلة وقال ضلالة وأتى بكفر في البلاد بواح
وكان شوقي مدافعا عن الخلافة العثمانية وهو من قال: 
أما الخلافة فهي حائط بيتكم
حتى يبين الحشر عن أهواله

كانت دراسة شوقي بفرنسا ومونبليه ثلاث سنوات على نفقة الخديوي توفيق، ولكن شعر شوقي ظل وطنيا فنظم القصائد في هجاء اللورد كرومر بمناسبة رحيله عن البلاد 1907 وهاجم رياض باشا لمديحه الاحتلال عام 1904، وكانت علاقته القوية بعباس حلمي سببا في نفيه إلى أسبانيا مع اندلاع الحرب العالمية الاولى بعد عزل الخديوي 1914، وكان قد كتب فيه قصائد ماتعة منها "إلى عرفات الله يا خير زائر" بمناسبة ذهابه للحج، وفي فترة نفيه كتب أعذب أشعاره لأنها كانت فترة تتمتع بالهدوء ولكن ملأها الحنين للبلاد وكتب: 
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي 
وبعد عودته 1919 كتب شوقي قصائده المعادية للاحتلال البريطاني. وكتب بتلك الفترة مسرحياته المستمدة من التاريخ وكثيرا من قصائده الاجتماعية والوطنية. وبالفعل كان كثير النظم للملوك والأمراء، وهو الذي عملت جدته بقصر الخديوي إسماعيل ونشأ بصحبتها، وقد كانت محبته للقصر سببا في هجائه لعرابي ورفاقه وكان يشعر أنهم ورطوا المصريين في مواجهة كانت كلفة الدماء فيها باهظة بمعركة التل الكبير، لكنه أيضا توقف عن مدح القصر الحاكم بعد سياسة الوفاق مع الإنجليز، وهو من أسس عصبة بباريس ضد الاحتلال وكتب لمصطفى كامل يرثيه: 
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والدان
يا خادم الإسلام أجر مجاهد
في الله من خلد ومن رضوان
وظلت نهج البردة إحدى روائع شوقي على الدوام والتي تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم، وقد تبعها بعدة قصائد في مديح النبي الأكرم كقوله: 
سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابًا
في مثل هذا اليوم 14 أكتوبر رحل عن عالمنا أحمد شوقي عام 1932، وقد كتب على قبره البيتين التاليين
يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي وكيف لا يتسامى بالرسول سمي
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل في الله يجعلني في خير معتصم