الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يبدو أن الاستعمار كان حالمًا وواهمًا أيضًا، عندما خط حدود بلادنا العربية والإسلامية، وقسمها وجزأها فى «سايكس بيكو» بهذا الاتساع وهذا الارتياح. 
تخيل الاستعمار وظن -وبعض الظن إثم- أن المسلم السنى ممكن أن يعيش أو يتعايش مع المسلم الشيعى فى نفس ما أطلق عليه حديثًا «الوطن». بل قل إن شئت أن يعيش المسلم السنى العربى مع المسلم السنى الكردى فى وطن واحد، ناهيك طبعًا أن يعيش هؤلاء المسلمون بمذاهبهم المختلفة وأعراقهم المتباينة مع مسيحيين أو يهود أو ملاحدة أو مثليين فى نفس الوطن.
كان الاستعمار ساذجًا وواهمًا وخياليًا، وغير مدرك لطبيعة العقل العربى وغير ملم بأمراضه واستعصاءاته وقبح ثقافته، عندما تصور أن العقل العربى يمكن أن يقبل الآخر أو -قل إن شئت- يعترف أصلًا أن هناك آخر. 
كانت حركتنا الوطنية، وزعماؤنا الذين تعلموا فى أوروبا، حركة حالمة ورومانسية تغريبية هى الأخرى، عندما حاولت أن ترفع شعار الدين لله والوطن للجميع، عاش الهلال مع الصليب. 
وكان التاريخ قبلها واهمًا يغط فى تيه وآمال عريضة عندما اخترع ما عرف «بالدولة القومية» فى عام ١٦٤٨، دولة مواطنة بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو العرق أو الجنس أو اللون أو الطبقة. 
كان «رفاعة الطهطاوي» غريبًا وشاذًا عندما حاول أن يصك معنى جديدًا ومفهومًا حداثيًا أعجبه فى باريز «المواطنة» أو كما أسماه هو «الأخوة الوطنية» وماثل بين الأخوة فى الدين والأخوة فى الوطن، وحاول أن يؤكد أن حب الوطن شعيرة دينية فأكد أن «حب الوطن من الإيمان». 
كان رفاعة واهمًا، وهو يحاول إقناعنا بالعقد الاجتماعى وثقافته بالدستور الذى أسماه المشروطية. 
كان رفاعة يزرع ما لا يمكن زرعه فى بلاد العرب والمسلمين التى تعج بكل ما هو دينى وطائفى وعرقي، ويتجذر فيها كل ما هو قبلى وعشائرى وجنسى وطبقى وعائلى أيضًا. 
كان رفاعة بعد عودته من باريس، يحاول حقن التربة، وزرع ما لا يمكن زرعه واستنبات ما يصعب نموه فى بيئة تأخرت وانعزلت عن الحداثة والتحديث قرونًا طويلة وبلاد لا تزال تعيش فى عصور «ما قبل»، الدولة القومية، وما قبل السياسة، وما قبل المواطنة، وما قبل الدستور، وما قبل القانون، وما قبل الأحزاب، وما قبل المجتمع المدنى.. إلخ.
كان رفاعة الطهطاوى واهمًا وحالمًا بالتحديث، وكانت الحركة الوطنية حالمة، وكان الاستعمار واهمًا أيضًا، فثقافتنا لا تقبل الاختلاف وتأبى التعدد وتقتل الغير وتمنع الغيرية.
واضح أن فكرة الوطن الجامع والتعايش المشترك والوطنية، والدولة القومية التى نشأت تاريخيًا بعد صلح «ويستفاليا»، ونهاية حرب الثلاثين بين الطوائف المسيحية فى أوروبا الكاثوليك والبروتستانت فى عام ١٦٤٨، لا تتماشى مع ثقافة العرب والمسلمين عموما، فللدينى حاضر طاغٍ، والعرقى متجذر للغاية ولا يمكن تجاوزه، والطائفى قديم وتاريخى وثأرى ومستمر ولا يؤذن بانتهاء، والقبلى والعشائرى وجودى وهوياتي، والجنسى محض ثقافى قروسطى لم يتم التخلص منه أو محاولة تجاوزه، والثقافى والقيمى لا ينتج إلا قبحًا ومزيدًا من القبح، ويلغى لا محالة ويزيح بأريحية وسهولة الوطنى، ويهدمه أو قل إن شئت يئده ويمنع نموه، ويلغى الإنسانى طبعًا وينفيه. 
ومن هذا المنطلق يجب تحويل الموصل، بعد تحريرها من داعش إلى عاصمة للعراقيين العرب السنة تشابهًا وتماهيًا، وعلى غرار أربيل عاصمة العراقيين الأكراد السنة، يبقى أن نفكر فى عاصمة شيعية للعراقيين العرب الشيعة أيضًا وعاصمة أيضًا للمسيحيين، لما تبقى من ذبح المسيحيين العراقيين وتهجيرهم أيضًا.
وفى النهاية سيظل الملحدون العراقيون مضطهدين فى كل تلك العواصم العراقية، وعليهم أن يناضلوا من أجل عاصمة لهم أيضًا.
واضح جدًا أن بلادنا وأناسنا فى حاجة ماسة إلى تفتيت المفتت وتجزىء المجزأ، وعلينا أن نسعى مع القوى الكبرى فى هذا العالم وأن نطالب بسايكس بيكو - ٢ كى نعالج خطايا وأوهام سايكس بيكو - ١. 
ثم علينا أن نمهد الطريق لسايكس بيكو - ٣ وهى تجزئة المجزأ، حسب الدين إلى تجزئته ثانيًا حسب الطائفة، ثم ثالثًا حسب العرق كى تضع الحرب أوزارها، ويحط الاقتتال الأهلى سلاحه ويمتنع التخوين والتكفير والإرهاب الفكرى، وينتهى الذبح على الدين والطائفة والعرق.