عُرف بتدينه ووعظه الشديد حيث كان يصلي ما يقرب من مائة ركعة يوميًا خلال فترة خلافته، فهو خامس الخلفاء العباسيين "الخليفة هارون الرشيد"، والده هو محمد المهدي، وأمه الخيزران بنتُ عطاء. ومن أبرز أفعاله التي تدل على تدينه الشديد بكاؤه الشديد عند تلقيه المواعظ، كما قيل أنه قضى حياته إما في الغزو أو في تأدية فريضة الحج، إلى جانب كونه أول خليفة عباسي يستلم قيادة جيش الغزو بنفسه، دون أن يوكلها لشخص آخر.
تزوج "هارون الرشيد" بأكثر من سيدة ولكن زوجته وابنة عمه "زبيدة بنت جعفر" كانت تحتل المكانة الأكبر في قلبه، هذا إلى جانب الجواري "ملك اليمين" لديه فكان ذلك أمرا معروفا في هذا الوقت وخاصة لدى الأمراء وكبار القوم.
بلغ عدد أبناء هارون الرشيد عشرة واثنتا عشر بنتا، فكان أبناءه هم محمد الأمين من زوجته زبيدة، وعبدالله المأمون من جارية فارسية اسمها مراجل، والقاسم بن الرشيد وأمه قصف، وأبو إسحاق محمد المعتصم بالله ووالدته تركية اسمها ماردة خاتون، وعلي من زوجته أمة العزيز، وصالح من جارية اسمها رثم ومحمد أبو يعقوب ومحمد أبو عيسى ومحمد أبو العباس ومحمد أبو علي، أما بنات الرشيد الاثنتا عشر هن سكينة أخت القاسم، وأم حبيبة أخت المعتصم من ماردة خاتون، أروى، أم الحسن، حمدونة، فاطمة وأمها عفص، وأم سلمة وخديجة وأم القاسم رملة وأم علي وأم الغالية وريطة وكلهن من أمهات أولاد.
كان لهارون الرشيد ميول أدبية شديدة نحو الشعر والأدب فكان كثير المجالسة للأدباء ومتذوقا للشعر واللغة وكانوا يبادلونه نفس التقدير والإحترام خلال مجالساته معهم، حيث قال في البلاغة "البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل على المعنى".
منجزات عصره
عندما تولى هارون الرشيد الخلافة في 14 سبتمبر 786م، كانت أول قرارته تتجه نحو العفو العام عن المساجين، ثم جعل "الرقة" عاصمة للدولة العباسية التي لحقها مباشرة بإنشاء بيت الحكمة في بغداد العراقية حيث قام بوضع الكتب والمؤلفات به.
بنى هارون الرشيد المساجد للصلاة والقصور التراثية كما أهتم بالقطاع الزراعي حيث اهتم بالأنهار لتوفير المياه اللازمة لحاجات الزراعة، هذا إلى جانب إهتمامه بالتجارة حيث شجع على عمليات التبادل التجاري بين الولايات الأخرى.
ساند في إخماد ثورة الخوارج، عندما أرسل جيشًا لقتال جيش الوليد بن طريف والقضاء على ثورته، ومرةً أخرى عندما أرسل قائده يزيد بن مزيد لقتل الوليد بن طريف، وتكللتا بالنصر، وذلك بالإضافة إلى إنهاءه الفتن الداخلية حيث ظهرت في خلافته حركات استقلالية كان هدفها الإسقلال عن الدولة العباسية وإنهاء
حكم هارون الرشيد.
وضع هارون الرشيد البرامكة في السجن وصادر جميع أموالهم، ومنع الشعراء من رثائهم، وذلك بسبب الخلاف القائم بين العرب والعجم في ذلك الوقت، ثم أقام منطقة جديدة تدعى العواصم، وهي توجد في مدينة منبج شمال شرقي حلب، ووضع جيشًا في تلك المنطقة، وذلك بسبب العداء بينه وبين الدولة البيزنطية، حيث زادت هذه العملية من نفوذ وقوة الجيش حيث عُرف الجيش العباسي في عصره بقوته وجبروته.
أجبر "الرشيد" نقفور ملك الروم، على دفع الخراج والجزية، وذلك بسبب الرسالة الشهيرة التي أرسلها نقفور إلى هارون الرشيد، والتي كان نصها: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرَّخ وأقامت نفسها مقام البَيْدق، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا، فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك"، فكان رد الرشيد عليه: "من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، والجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام"، وتأتي أخر أبرز أعماله متمثله في تبادله البعثات الدبلوماسية مع الدولة الرومانية في عهده.
صفات الرشيد
عُرف بعظمته ووصفه التاريخ بأجل ملوك الدنيا، كان كثير الغزو والحج، أبيض طويلًا جميلا مليحًا فصيحًا، كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم فلم يأتي خليفة يعطي أكثر منه، وكان يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه سيما إذا وعظ وكان يحب المديح ويجيز عليه الأموال الجزيلة، وكل ذلك إلى جانب نظرته في العلم والأدب حيث كان يحب العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام ويبغض المراء في الدين والكلام في معارضة النص، ويُعتبر "الرشيد" أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمي النشاب في البرجاس وأول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس، كما كان أول من جعل للمغنين مراتب وطبقات.
الفتوحات في عهده
تولى الرشيد الخلافة في 14 ربيع الأول في 170هـ و14 سبتمبر في 786م، وذلك بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وكانت الدولة العباسية عندما تولاها تتسم بترامي الأطراف حيث تمتد من وسط أسيا حتى المحيط الأطلنطي، ومعرضة لظهور الفتن والثورات حيث كانت تحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة يفرض سلطانها الأمن والسلام، وتنهض سياستها بالبلاد، وكان الرشيد أهلًا لهذه المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الإتصال شاقة، ومتابعة الأمور مجهدة.
عُرف عصر هارون الرشيد بعصر النهضة حيث عمل على العديد من الإنجازات بكافة قطاعات الدولة بالإضافة لسعيه من أجل تخفيف الأعباء المالية عن الرعية فعمل على نشر العدل ورفع المظالم، وفي عصره زادت الأموال الداخلة إلى خزانة الدولة مما عم بالرخاء والازدهار على كافة أركانها، هذا بالإضافة للتقدم في العلوم والفنون وغيرهم من المجالات المختلفة، فشهد عصر الرشيد نهضة معمارية أيضًا فبنيت المساجد، والقصور وحفرت الترع والأنهار، وامتد الرخاء إلى بغداد حيث نالت حظها من الرخاء، والازدهار فاتسعت رقعتها وبنيت بها المساجد، والقصور وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق بالإضافة للنهضة العلمية الواسعة التي شهدتها فكان يفد عليها العلماء من فقهاء، ولغويين وغيرهم من كل حدب وصوب فكانوا يتبادلون العلوم ويلقنون الطلاب علومهم المختلفة.
ومن الفتوحات التي تمت في عهده بدأها بفتح مدينة دبسة على يد الأمير عبدالرحمن بن عبدالملك بن صالح العباسي في 176هـ، ثم فتح حصن الصفصاف عنوة في 181هـ، وانتهت حركاته الإفتتاحية بتوجهه نحو خراسان وذلك في 192هـ.
أشهر مقولاته
"من شاور كثر صوابه".
"النفس تطمع والأسباب عاجزة، والنفس تهلك بين اليأس والطمع".
"الشرف يمنع صاحبه من الدناءة".
"في أي مكان شئتِ أمطرى فسيحمل إلى خراجك".
"الجواب ما تراه دون أن تسمعه، والسلام".
"كل ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخلة البصرة".
وفاته
أصيب "هارون الرشيد" بعلة شديدة في بطنه كان يُخفيها عن الجميع بما فيهم أقرب الناس إليه وهم ولداه المأمون والأمين، حيث كان يربطها بقطعة من الحرير حتى لا يُظهر لأحد ما يعانيه، حتى توفي بمدينة طوس شمال إيران في 24 مارس 809م عن عمر يناهز 46 عاما، وتم دفنه بطوس بعد رفض إيران استلام جثمانه وسمي قبره بـ"الهارونية".
