الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

خيري شلبي.. التورط بالحياة عبر ورقة وقلم

خيري شلبي
خيري شلبي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"لا يصنع مجد الكاتب إلا قدرته على الالتحام بأفئدة الناس، للإسهام في إضاءة الدروب المظلمة أمامهم"
وبهذا المفهوم يحدد الحكّاء المصري العبقري خيري شلبي هدفه من الكتابة، وهي عملية شاقة تستلزم التورط بالحياة جيدا، لا أن تكتب عن مشاهداتك وأنت بشرفة منزلك.. ولقد تنقل أديبنا الذي يصادف يوم غد السبت 9 سبتمبر ذكرى رحيله، بين مهن شاقة متدنية وصلت لحمل القصعة بين عمال التراحيل، لكن المشقة جعلته يخالط ملح الأرض ويكتسب حس الفكاهة وغزل القصص.
كان خيري يعتبر أن أكبر مرض قاتل للجسم البشري هو الرفاهية؛ وأن عقلنا المكتسب كلما نما بمعارف حقيقية وليست مجرد مطالعة كتب، سيتدنى ذلك العقل الغريزي الذي لا يفكر سوى بالأكل والشرب والإنجاب.. ولكي تصبح كاتبا حقيقيا عليك أن تعاني وإلا فلا تكتب. 
"خيري" الحكاء بالفطرة كان يمتع مجالسيه بقصص من عرفهم، ويدهشهم بأسرار لم يعلموها، وقد ساقتها إليه جلسات مع مشاهير وبسطاء وصفحات صفراء بكتب قديمة بالأرشيف، وهو بذلك منجم مفاجآت متنقل.. قليل الكلام وكثير التمعن، ينصح الكتاب الشبان بألا يحضروا الندوات إلا لماما؛ لأنها ستصيبهم بالغرور بعد كتابة أول عمل، أو تدوس براعم خيالهم الخصب بالجهالات والحشو المتكرر!..
والكاتب اعترف أيضا بأنه لم يقرأ ما كُتب عنه إلا نادرا، رغم أن أربع رسائل أكاديمية على الأقل دبجت في رواياته وأعماله، ناهيك عن عشرات المقالات النقدية والأدبية.
خيري.. صائد الكنوز
يظل خيري شلبي أحد أهم القراء الذين عرفتهم الحياة الأدبية وطيلة عقود من القرن العشرين، ورغم أنه أمر بديهي أن تخرج الكتابة الجيدة من بوتقة قاريء جيد، لكن هناك من عٌرفوا بإبحارهم كقراء وصائدي كنوز أدبية وبينهم عباس العقاد في الستينات، ووصولا للأرجنتيني مانغويل صاحب "المكتبة في الليل".
وبفضل دأبه في القراءة تمكن خيري شلبي من اكتشاف نحو 200 مسرحية تعود للقرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين، ومنها "فتح الأندلس" لمصطفى كامل" و"الراهب" لأمين الخولي، ونص التحقيق مع طه حسين بسبب كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"، وهي فتوحات صحفية وأدبية قادها ببراعة.
إلى جانب ذلك كان خيري أحد أهم رسامي البورتريهات الأدبية عن المشاهير، أو فن المرآة الذي يقترب بفنية ورهافة عاليتين من الأبعاد النفسية لأي شخصية يكتب عنها سواء أكان زعيما أم فنانا أو حتى بائع متجول وصبي بمقهى وهي النماذج التي أترعت بها رواياته كـ"الأوباش".
مندرة البيت تطوي العالم
"أن تعيش لتحكي" هي نبوءة بشرته بها جدته لأمه وباركتها أمه، كما يقول، لكن أبيه هو البطل الذي ظل يداعب خياله، كما يشير بمقال نادر في مجلة "فصول" بعددها الأول؛ فهو سياسي فاشل وشاعر محبط، ينتمي لأسرة ثرية انحسرت عنها الأضواء وفاتت ثروتها على عدد هائل من البشر، لم يكن من نصيب الأب منها سوى قطعة أرض بور، وقد كان موظفا بهيئة فنارات الإسكندرية، جرب الزواج عدة مرات فلم يكن يعيش له ولد، فلما أحيل إلى التقاعد رجع إلى القرية بلا زوج، لينعم بشيخوخة هادئة، إلا أن هذا الحظ ألقى في طريقه بفتاة شركسية الأصل، جاءته بعدد كبير من الأبناء، كان ترتيب خيري الرابع بينهم.. وهكذا تشبث الأب بشبابه حتى التسعين كي يكتب للأسرة أن تبقى على قيد الحياة. 
هذه التنشئة تركت أثرها بوعي خيري شلبي الذي كان يرى صور أعمامه وعماته في عواصم العالم، بينما هو مضطر للعمل اليدوي إلى جانب الدراسة لكسب قوت اليوم، ولم يكن ذلك مدعاة للأسى بقدر كونه حافزا للتغيير. 
يتذكر خيري مندرة بيتهم بكفر الشيخ كان تجمع المثقفين من أصدقاء الوالد، وكانت روايات "ألف ليلة وليلة" وروايات جورجي زيدان عن تاريخ الإسلام، وصياغات المنفلوطي للروايات المترجمة، ومغامرات أرسين لوبين، يجري تناوب قراءتها بين الجالسين، ومن هنا اكتسب خيري فن الحكي وكان يجد متعة في أن يقرأ ملاحم السيرة الشعبية لعنترة وحمزة البهلوان وعلي الزيبق، والملاحم الغنائية كعزيزة ويونس، بصوت عال وأداء مدهش يثير دهشة ومتعة المستمعين من الأهل والأصدقاء. 
يقول شلبي: كانت القراءة المكثفة آنذاك بالنسبة إليّ أشبه ببرازخ مياه انفتحت على أرض شرقانة فأحيت ما في باطنها من مكونات نباتية فصارت تنبت نباتات مجهولة الهوية. كانت كتاباته الأولى تجمع الشعر بالفلسفة والنثر، وقد تعلم عن أبيه أن ينقل العبارات التي تأثر بها في الكتب بكشكول يحمله، كما علمه الأب كيف يكتب شعرا بغير تقيد بالتفعيلة. وكان الأب صاحب الفضل الأكبر في تقوية ذاكرته الأدبية وفي ربطه بأمهات الكتب.
مقهى المسيري ولقاء القمم
في معهد المعلمين قاده صديقه مصطفى حمدان لمكتبة الحوفي المدفونة بشارع خلفي وراء مديرية دمنهور والمتخصصة في بيع وتأجير الكتب القديمة بقروش زهيدة جدًا، وكان صاحبها يعرف أيضا أخبار الكتب الصادرة حديثًا، ومن هنا انفتحت أمامه بوابات التراث العربي والعالمي المعاصر وقرأ عدد لا حصر له من الكتب، وكان كما يقول يستشعر أنفاس كتّابها.
وقد تأثر أديبنا بتوجيهات أستاذه بمعهد المعلمين النهم بالقراءة، أرشده آنذاك لكتب الحكيم وطه وهيكل وسلامة موسى، ونصحه بكتابة القصة وفتح أمامه كتابات معاصرة لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبدالحليم عبدالله ويحيى حقي ومحمد فريد وعبدالصبور، وظل "شلبي" مفتونا بكل هؤلاء طيلة حياته.
كان يقول عن إدريس أن فنه يستدعي البحث في مادته بالرجوع للقرية والحارة المصرية، أما محفوظ فقد لازم مجلسه الشهير وبدأ فعليا بكتابة الرواية بعد أن أهدى إليه محفوظ روايته "الحرافيش" بعبارة لن ينساها "الكاتب الكبير الذي أنتظر على يديه الكثير". أما يحيى حقي فقد اعتبره "شلبي" الأب الروحي على الدوام. 
ومن مقهى المسيري بدمنهور تفتحت أمامه أبواب الكتابة واجتمع بمبدعي مصر، حيث كان النقاش على أشده بالسياسة والفن والأدب.
من هنا نشأت علاقة خيري بالكتب والكتابة.. كتب خيري الأغنية الشعبية ثم القصة القصيرة والمقال والتحقيق الصحفي بمجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1967، ثم انطلق لعالم الرواية.
الكتابة ليلا.. وفي المقابر!
لا يتخذ خيري شلبي منهجا بالقراءة ولكن يفضل قراءة الجديد الذي يقع تحت يده من كتب أو مجلات، وهو ينوع قراءاته من الأدب والإسلاميات والفنون وحتى العلوم البحتة! يقرأ الكتاب كاملا أو يدعه، وقد ظل يعتبر القراءة طبقه اليومي الشهي وحرص أن يكون بيته كله عبارة عن أرفف للكتب والدوريات.. يقرأ في كل مكان.. وقد عرف عنه محبة القراءة والكتابة ليلا وحتى الصباح، بعيدا عن الصخب.. 
والأغرب بطقوس خيري شلبي والذي يعلمه قراؤه هو كتابته لعدد من أعماله بالمقابر، وهي التي قادته إليها مصادفة غريبة حين تعطلت به السيارة فتوغل بمقابر قديمة بصلاح سالم تسمى "قايتباي"، وبينما كان الميكانيكي منهمك بتصليح السيارة، كان عم خيري مستغرقا بكتابة رواية ظل شهورا يحمل مخطوطاتها.. كذلك كان حنينه كبيرا للمناطق الأثرية التي تركها المماليك بالقاهرة ومنها استلهم روايته "صحراء المماليك". 
وإن كنت ترغب بالاقتراب من سيرته فعليك برواياته "وكالة عطية" و"موال البيات والنوم" و"أنس الأحباب"، هي سيرته التي وزعها على الورق.. واعتبرت الأولى بين أهم الروايات العربية، لكن خيري ترك لسبعين عملا قصصيا وأدبيا مهمة رسم ملامح من عرفهم وسيرة عصر ربما لن يكون جيل لاحق قد عاشه. 
ثورة المهمشين
وضع خيري شلبي رؤيته السياسية الثائرة بأعماله، حين كتب في "أولنا ولد" مثلا: "إياك أن تظن أن فى بلادنا شيئا يمكن أن يمنعه الحراس، أو عملا يمكن أن يخلصه المستوظفون بدون أن تعطيهم عن يد وأنت صاغر، وطالما أن جميع القائمين على الشغل فى بلادنا يمدون الأيدى حتى وإن لم يخرجوها من جيوبهم فإن ما تسمونه القانون والضمير والعدل مجرد كلام فى كلام يا بوي"، وعن الخطاب الديني يقول في اسطاسية وهي أرملة مسيحي رحل نتيجة أحداث طائفية بصعيد مصر: "كلهم اصبحوا دعاة بقدرة قادر لأن سوق الدعاة قد جبر" وفي وكالة عطية يتواصل الوجه الثائر: "لقد رأيت أو لعلني سمعت قولا مأثورا، معناه: "اذا كنت في بلد لا يؤمن بالله فليس هناك تهمة بالكفر؛ وإني في الواقع لزعيم بأني في بلد لا يؤمن بالشرف الا من قبيل الدعاية والمنظرة والفشخرة الكذابة".
يقول خيري عن نفسه: "ما أنا إلا حكواتي سرّيح، أشتري الحكايا من منابتها، أجوب وراءها الأسواق والشوارع والحارات والمنعطفات، مهما كلفني السعي وراءها من بذل ومشقة وعناء". وللمهمشين الذين صاروا أبطالا بمتنه أهدى مجموعته القصصية "أشياء تخصنا" وكان سعيدا بكونه كاتب شعبي يقرأه الجميع، وأن يكون أدبه "هو الحياة" وأن يكون صوتا لمن لا صوت لهم.