الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عبدالمنعم كامل.. شاعر الرؤية المتكاملة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في سؤال موجه إلى الشاعر الكبير الأستاذ أحمد شلبي، لمن تكون صدارة المشهد الشعري من بين شعراء محافظة البحيرة؟ فكانت إجابته المباشرة جدا، والسريعة جدا، والمتوقعة في الآن ذاته من رجل مثله: ضع عبدالمنعم كامل على رأس القائمة، ثم ضع بعده من شئت لكن في المرتبة السابعة.
هذه شهادة شاعر غير عادى لشاعر لشاعر غير عادي، ولا يدرك قدر الشاعر سوى شاعر مثله، ولا يفقه الشعر سوى من دفع إلى مضايقه، على ما قيل، فأنت عندما تقف أمام شعر عبدالمنعم كامل، فإنما أنت واقف يقينا أمام شاعر مغاير، شاعر يمتلك الرؤية المتكاملة لعوالم الشعر، شاعر تملًك أزمة اللغة، فانطاعت له فشكلها طنافس موشاة على كل لون، رجل تفرغ للشعر تفرغ المتبتل في محرابه، فعايش طرفة والنابغة وامرأ القيس وعنترة، وناغى المتنبي وأبانواس والمعري، وتحاور مع ابن زيدون وابن خفاجة وأبي البقاء، وجالس شوقي وحافظا ومحمود حسن إسماعيل، وهضم شعر الحداثة كله، ووعى دروبه وتطوراته، ووقف على كل دقيقة في تراثنا النقدي، وساعده تمكنه في الإنجليزية أن يطلع على كل تطور في الحركتين الإبداعية والنقدية على الصعيد العالمي.
والمبهر بحق أنه استوعب ذلك كله، مما يجعلك عندما تجالسه تتصاغر أمام ثنتين عجيبتين، موسوعية واقتدار، فتُحمل طائعا على أن تجلس منه مجلس التلميذ الراغب في التعلم من الأستاذ المحب لما يقول.
عبدالمنعم كامل شاعر يعيش الشعر، فهو حالة فريدة إذ صد وجهه عن تلوث الأفق الأدبي فنضج على نار هادئة من السبح في مهامه الإبداع الحقيقي، الإبداع المتترس ببصيرة واعية، وفكر عميق، وثقافة أصيلة رصينة تقوم أول ماتقوم على وعي كامل بالتراث، وفهم تام وغير مزيف للحداثة، رجل ارتضى لنفسه أن يكدح في حياته، وأن يعاني كبَدا حقيقيا لا يتحمله متحمل، وأن يقنع في عيشه الخاص بأقل القليل، ولكنه لا يرضى لشعره بما دون اعتلاء القمة، يكتب الشعر العمودي بحديه الحادين الصارمين الوزن والقافية، فلا يكاد يُبارَى لغةً أو صورةً أو تركيبا أو انسجاما أو إيقاعا هادرا آسرا، ويكتب شعر التفعيلة فيأخذك معه إلى هنا ليس هنا، ويجعلك تحيا في حالة من الهيام الممتع في عالمه الخاص.
عبدالمنعم كامل من أولئك الشعراء الذين تسلم لهم أذنك، وذائقتك وذاتك مجملة آمنا مطمئنا إلى أنك لن تقع على لحن موجع، أو كسر مخل، وهو رجل عصمته كبرياؤه عن الكثير، في حين أنه قدم لدنيا الإبداع كنوزا تتيه بها على ما سواها، فأنا لا أكاد أقف على شاعر في قامة هذا الرجل من بين أولئك الذين تصدروا مشهد الأدب بالمداهنة أو بالتخلي وهم دونه قدرا وإبداعا، فليس لك سوى أن تطالع قوله:
أرسل العصفور في الليل صياحه
ثم لم يدرك على الوادي صباحه
دائرا يحدو كوى نار على
مخلب الليل الذي شج جناحه
ينحني وقتا على ركوته
لا يرىمن قطرة فيها متاحه
طار من عش إلى عش فما
عبر العصفور في الوادي جراحه
غارق في الانكسارات ولم
يطرح العصفور في يوم سلاحه
لعل البيت الأخير هو خير ملخص لحياة ذلك الفارس النبيل، الفارس الذى آلى على نفسه إلا أن يقاتل منفردا إلى آخر لحظة مدافعا عن الإبداع، ومثبتا وجود ذاته في عالم لم يقدره حق قدره، وهيئات ثقافية تعمى عامدة عن كل أصيل، أوَرأيت رجلا تكون تلك لغته في سموها الفني الفتان، ويكون ذلك جزاؤه من التجاهل المتعمد ؟.. تأمل قوله:
رأيتها تتقي عينيً من خجل
كأن في صدرها شيئا من الوجل
أو قاسمتني رؤًى في نظرتين على
جناح غربتنا في مهمه الأجل
أو أغرق النهر فيها نفسه فإذا
في مقلتيها ندى حزن على شهَل
كأنها وهي فى مجرى ملا حتها 
ريمٌ على وجهه شيء من البلل
بيضاء تجهش بين الواديين وما
غنيتُ شيئا سوى ما قيل في الطلل
حتى على فجأة نامت مكفنةً
فيما يفيض به الإشراق من حلل
هذه أنات مشجية، وذاك عزفٌ موجع على أوتار فقد مؤلم، نحن أمام تجربة حقيقية لشاعر انصاع له فنه، وطاوعته نجاواه فبثها تعابير تنثال تترى راسمة ذلك المشهد الجنائزي المحزن، أي نهر ذاك الذي يغرق نفسه في ذات أنثى؟ وأية رفعة تلك في تصوير الجمال؟ وأي وجه مكفن ذاك الذي يفيض إشراقا؟
أقول: إن عبدالمنعم كامل شاعر مغاير، شاعر يدرك حجم شاعريته، شاعر يضن بذات هو يعرف قيمتها عن أن تكون كغيرها، لاهثة وراء زيف زائل، أو منساقة في خضم عبث حقيقي معيش يدركه كل ذي حس من بين شعراء ذلك العصر الذي لا يعطي الشعر ولا الشاعر حقهما المهيض. فاعزف يا عزيزي لكن لمن يقدر فنك وغرد منفردا قائلا:
خرجت منها وحيدا والمدى حلكُ
والريح في همهمات المنحنى شركُ
كأنما الجن في المسرى على أثري
سيشربون دمائي حين تنسفكُ
أو أن عرافةً شوهاء تكشف لي
أن سوف يطلق خلفي جنده الملكُ
وأنني ليس ينجي رحلتي حذرٌ
حتى لو احتاط لي في سره الفلكُ
وكاشفتني لغات كنت أجهلها
أن قد تساوى البكاء المر والضحكُ
عبرت لا أتقي في السهل عاديةً
من الجنون وروحي ليس ترتبكُ
لا ماء في السهل إلا أن أغنيتي
مبتلةٌ بدم الأحباب مذ هلكوا
ولست أعرف قبرا كي ألم به
ولا عناوين في غير الصدى تركوا
اعزف فأنت بحق شاعر الرؤية المتكاملة