الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحزن الحرام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
المرأة فى الريف ممنوعة من كل شيء تقريبا، ممنوعة من الشكوى، من الاعتراض، من المطالبة بالحقوق، من المساواة بالرجل، ممنوعة حتى من الحزن!
كيف؟ تعالوا أقص عليكم قصة قصيرة، ولكنها حقيقية وتحدث تقريبا كل يوم.
على أطراف كوبرى أبوالنور بمركز إطسا فى محافظة الفيوم، توجد منطقة للمدافن، خاصة بعائلات العزب المحيطة بالمنطقة، ومنها عزبة جدى السيد محمد ومسقط رأس والدي، كل يوم تقريبا تشهد تأبينًا لجسد أحد الموتى، ترى النعش قادمًا ومن ورائه حفنة لا بأس بها من الرجال والشباب بل والصبية الصغار، وعندما تتساءل: أين أهل هذا الميت من النساء؟ ألم يكن له أخت، ألم تكن له زوجة، أليس له أم تبكيه أو ابنة ترثيه، تجد الرد قادما بجفاء من أحد الحناجر المتخفية خلف لحية كثيفة: خروج النساء فى الجنازات حرام.
حرام، لماذا حرام؟ حرام لأنها لا تستطيع التحكم فى مشاعرها، تبكى وربما تصرخ وتقع على الأرض مغشيا عليها، فيتكشف جسدها بين الرجال..هكذا يردون ويحاولون إقناعك!
ظللت طيلة حياتى أنبذ ذلك المشهد الظالم، أشعر بغضب بالغ وأنا أراهم يمنعون امرأة من توديع غالٍ أو مغدور أو فقيد أو قتيل لمجرد أنها أنثى، إلى أن رمى بالكرة فى ملعبى أنا!
يوم أن توفى والدى الباشمهندس، تزلزلت الأرض من تحت قدمي، تشقق قلبى كالأرض البور وذهبت إلى جثمانه فى حالة من اللاوعي، لم أستطع أن أفارقه لحظة فى غسله أو تكفينه، رغم أن جميعهم حاولوا إخراجى بالقوة، ولكن قوة مشاعرى هزمتهم جميعا ولم يقووا على إبعادى عنه.
حتى عندما حملوه ليصلوا على جثمانه ويدفنوه، منعونى بالقوة، تكاثر على نساء العائلة والقرية وهم يبكين على بكائى بحرقة، ولكن لا حول لهن ولا قوة، ينفذن تعليمات الرجال بالإمساك بى ومنعى حفاظا على العادات.
ولكن الغضب السابق بداخلى من قهرهم للنساء لدرجة منعهن من الحزن أثار وحشًا بداخلي، استمد قوته من الحنين الجارف الذى يسوقنى لأودع أغلى من سكن قلبى طوال حياتي، أبي.
وجدت نفسى أقاومهن بالقوة أيضا، بمفردى ولكن بقوة عشر رجال ممن يظنون، والمفارقة أننى استطعت التغلب عليهن والخلاص من محاصرتهن، وخرجت من بينهن حافية القدمين ولم أبال بحذائى الذى سقط مني، بل ركضت على قدمى العاريتين أهرول خلف جثمان أبى الذى كان قد ابتعد عنى لمسافة كبيرة.
ولأن الصدق هو مفتاح النجاة، صدقى فى حزنى سخر لى طوق النجاة الذى مكننى من اللحاق بأبى لأودعه عند قبره، شاب من شبان العزبة رأى ما حدث لى فلحق بى بسيارته وطلب منى الركوب لكى يوصلنى بدلًا من السير على قدمي، خفت منه فى البداية وتوقعت أن يخدعنى ويعود بى إلى عزاء النسوة، ولكنه أقسم لى برحمة والدى أن يوصلنى إلى قبره.
وصلت هناك ونزلت من السيارة وسط ذهول من الجميع، فلم يكن مشهدا مألوفا لديهم أن تأتى امرأة لتودع ميت على المقابر بين الرجال، وليست امرأة عادية، بل شابة مكشوفة الشعر لا تمشى على استحياء ولا تنتظر إذنًا من أحد لتعبر عن حزنها، ولكننى فعلتها وودعت أبي.
أعلم جيدا أننى صرت بعدها حديث العزبة وكل العزب المجاورة، وربما نعتونى بالقادرة أو المجنونة، ولكننى تمنيت بداخلى أن أكون قد أشعلت فتيلًا من التمرد للنساء هناك، علّهن يتمسكن بشيء من حقوقهن ولا يتركنها كلها تحت سيطرة الرجال، حتى الحق الإنسانى فى الحزن.