الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: رفعت السعيد مفكر سياسي بدرجة "روائي متميز"

رفعت السعيد
رفعت السعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رفعت السعيد، السياسي المفكر المؤرخ، ممن يختلف الناس حوله وينقسمون بين الإعجاب والنفور، القبول والرفض، لكن الجانب الإبداعي للسعيد لا يحظى بما يستحق من المتابعة والاهتمام والتقييم النقدي الجاد، وليس من تفسير منطقي لهذا الإهمال إلا طغيان مجالات نشاطه الأخرى، ما يجني بالتبعية على إنتاجه الروائي المتميز. رواية «السكن في الأدوار العليا»، 1978، تجربة ذات بناء متقن متماسك غير تقليدي، واللغة مكثفة تتسم بالبساطة والسلاسة، أما الشخوص فلا شبهة افتعال مصطنع في تحديد ملامحهم وسلوكهم، فهم بشر حقيقيون مفعمون بالحيوية والصدق والتوهج.
الراوي الشيوعي الشاب الهارب من المطاردة البوليسية هو الشخصية المحورية، والإطار المكاني يتمثل في البيت القديم المتهالك الذي يلوذ به في حارة شعبية فقيرة، والزمن منتصف الخمسينيات بعد فترة قصيرة من ثورة يوليو. مدحت اسم بديل ينبغي أن يُعرف به ويُنادى، والرفيق الذي يقوده إلى المخبأ يقدم خلاصة التحول الجديد: «أنا اسمي حسن. مأجر أوده فوق السطوح. المفروض إني باشتغل في بنها موظف، وانت ابن عمي اسمك مدحت، طالب في كلية الحقوق وبتشتغل موظف بالليل. صاحبة البيت ست طيبة. أنا أجرت الأوده من شهر، وانتظرت حتى أستقر وبعدين أجيبك. كل الجيران عارفين إنك جاي.. ومنتظرينك».




الغرفة ملاذ آمن للإفلات من قبضة الأمن، وإعدادها على هذا النحو يتطلب جهدًا جماعيًا لشهر كامل، والرفيق حسن من يتولى مهمة الاختيار وتدبير الاحتياجات الضرورية بما ينم عن المهارة الفائقة والدقة المتناهية: "أي رجل هذا، لم ينس شيئًا.. حتى الكراسات والأقلام".
بانتقال الراوي إلى الغرفة، تبدأ تجربته الجديدة المثيرة، منفصلًا عن تاريخه القريب الذي ينبغي أن يتوارى، متخلصًا من شخصيته، محكومًا عليه بالاندماج والذوبان في عالم ذي مفردات مختلفة: "هكذا وجدت نفسي في حياة جديدة تمامًا، كل شيء جديد. الاسم. المسكن والأقارب. المهنة. وضعت رأسي بين يدي وسرحت مستعيدًا التعليمات وشريط القصة من أولها: مطلوب القبض عليك. يجب أن تختفي. حسن سيدبر الأمر".
النجاح رهين بالاندماج في البيئة الجديدة دون ذرة من النشاز، وسكان البيت الشعبي بمثابة العينة الدالة المعبرة عن المجتمع الفقير الهامش، ويحوي نماذج شتى، متنافرة متكاملة: العاهرة المتقاعدة وزوجها مدمن الأفيون، زوجة اللص السجين المسئولة بلا موارد عن رعاية أبناء لا يعرفون الشبع، العامل الذي يتباهى بفحولة وهمية مع زوجة لم تتجاوز العشرين، العازف عاشق الموسيقى الهارب من شراسة الأمن في كفر الدوار، وتهمته الأساس تتمثل في ابن عمه خميس، الذي يُعدم مع البقري بعد أسابيع من ثورة يوليو.
بيئة مختلطة مضطربة كهذه تختلف عن إيقاع الحياة المغايرة للراوي، وفي موقفه من "الجوزة"، التي تدخنها نساء السطح بشراهة، ما يكشف عن جانب من التباين مع الواقع الجديد: "حسن قال لي تعايش مع السكان. كن واحدًا منهم يحبونك ويحمونك. لكنه لم يقل لي كيف أشد أنفاس الجوزة".
عبور الحواجز الاجتماعية والثقافية والنفسية ليس ميسورًا، بقدر ما أنه ليس مستحيلًا. إلى البسطاء الطيبين العفويين من الجيران الجدد، يعود الفضل الأكبر في الاندماج السريع للوافد الجديد مع العالم غير المعهود: "وعندما تركني الجميع بعد منتصف الليل أحسست أنهم قد نجحوا في ليلة واحدة في أن يمسحوا عني كل الماضي. وأنني قد أصبحت فعلًا "مدحت" الذي أراده حسن".
الإسراف في التقوقع فعل سلبي يطيح بفكرة الملاذ الآمن، والاندماج المحسوب أداة الطمأنينة وتبديد المخاطر والشكوك، لكن التطرف المضاد في الاندماج لا يختلف في آثاره السلبية عن العزلة، ذلك أنه يمثل تهديدًا حقيقيًا لجهود الرفاق وعملهم الدءوب. في لحظة انفعال عاطفي قد يكون مبررًا، يتورط من يُسمى مدحت ويصفع جارته الشابة لوزة بعد أن تسب أباها وتلعنه وترفسه: "أدهشني تصرفي، ماذا لو ثارت الأم؟ ماذا لو طردتني من البيت؟ إلى أين أذهب؟ ماذا لو قامت خناقة وانتهت ككل خناقات سعدية في قسم باب الشعرية حيث الصول صديقها الذي يدبر لها كل أمورها مع الحكومة؟ كيف أبرر موقفي أمام حسن وبقية الرفاق؟".
الإحساس الطاغي بالمسئولية، بعد اندفاعه الذي قد يكون ذا آثار وتداعيات خطيرة، يكشف عن جوهر شخصية الشاب الشيوعي ذي الحس الإنساني والالتزام التنظيمي معًا. هيمنة القلق لا تعبر عن مخاوف ذاتية، بل إنها تنبع في المقام الأول من الحرج في مواجهة الرفاق الذين ينفقون الكثير من الوقت والجهد لتأمين سلامته، وإذا به يتخلى عن حذره ويوشك أن يفسد الأمر كله.
الاختباء في ذاته ليس هدفًا، والانشغال بالعمل السياسي لا يتوارى أو يغيب، وهو ما يتجلى في استماعه إلى نشرة الأخبار من الراديو وتفاعله معها: "الموقف العام يتأزم والمصير المحتوم يقترب وينشغل ذهني بمشروع بيان يجب أن يحدد موقفنا بوضوح تام ومهما كانت النتائج".
لا يستطيع إلا أن ينفعل ويتفاعل، بل إنه ينشغل بالتفكير في صياغة البيان الذي يتحتم إصداره. المعاناة قدر لا مهرب منه، والحياة المزدوجة عبء ثقيل. النضال السياسي لا يحيل المرء إلى إنسان خارق يقهر الصعاب والتحديات، ذلك أنه ينتمي في نهاية الأمر إلى قبيلة البشر، المسكونة بكتلة من الأحاسيس والمشاعر التي تعبر عن قوة الضعف وضعف القوة: "تذكرت نفسي.. أنا الحقيقي وليس مدحت، بيجامتي الصوف الفاخرة، أسرتي، الروب دي شامبر في ليالي الشتاء، أمي وأبي، بيتنا وحبيبتي. كلمة واحدة من سعدية نزعت "الفلينة" فتدفقت أحاسيس الاغتراب والشوق والخوف. وتكومت على السرير أستشعر رغبة جارفة في الدفء وربما في البكاء.. جذبت أطراف اللحاف القذر ليس لمجرد الإحساس بالدفء، وربما أيضًا في محاولة للاختباء".
ينصرف مفهوم الاختباء هنا إلى النفس والخيالات التي تطارده وتعود به إلى دفء الأسرة والحبيبة، أما الطموح إلى البكاء فتجسيد لعذابات المطاردة ومرارتها. عندما يندمج الهمان الذاتي والموضوعي، لا يبدو مستغربًا أو مثيرًا للدهشة أن تتحول لحظات التعب إلى كابوس مزعج يصنع الرجفة ويقف بالشاب على حافة الانهيار، ووفق تعبيره الذي يفسر المشهد ولا يجملّه: "غريب ذلك الإنسان يتماسك بلا منطق، وينهار فجأة وبلا منطق أيضًا. أكاد أبكي. تشابكت مشاعر غريبة، أحزاني الشخصية بأحزان القضية.. غربتي.. وغربتنا جميعًا، مأزقي تحت لحاف قذر فوق سرير امرأة غريبة والمأزق الكبير الذي نحياه. هل صحيح ذلك الطريق الذي نحياه؟ وهل يستحق كل هذا العناء؟".
الصلابة لا تعني ترديد الشعارات الثورية الإنشائية الزاعقة، ولا تفضي إلى الإعلان الاستعراضي عن التماسك والقوة والتحدي، ذلك أن المواجهة ضرورية للتنفيس والتطهير. البيئة التي يعايشها تضم أفرادًا شتى من الشعب الكادح الذي يناضل من أجله، والوعي المحدود ظاهرة لا يمكن إنكارها أو إهمالها، أما مظاهر السلوك السلبي فإنها لا تُعد ولا تُحصى. من المنطقي إذن أن يفكر الشاب المخلص في الجدوى والمعنى، ومثل هذا النمط من التفكير لا يعني الوصول إلى محطة المراجعة والتراجع، لكنه ضروري وإنساني: "ماذا يجدي الأمر كله؟. الشعب نائم. بل هو يتظاهر ضدنا. ضدنا نحن الذين نهب نسمات حياتنا من أجله. تبدو الأمور جميعًا بغير معنى. نحن نضحي من أجل من لا يريد. ونتكلم مع من لا يسمع. ونختلف مع من لا يقبل سوى الطاعة المطلقة. وتبدو الصورة مأساوية حقًا. لو أن الناس تحس بعذاباتنا لهان الأمر. لهانت كل العذابات. لكن الناس بعيدون عنا. وكلماتنا ماذا تجدي؟ هل تقنع أحدًا؟ أم هي للتاريخ فقط كي يقول مؤرخ مغرور بعد سنوات.. كانوا يقولون الصدق.. الصدق.. ماذا تعني هذه الكلمة؟.. اسكت أنت.. إنك تبرر ضعفك. مجرد برجوازي صغير ترتجف لدى أي انحناءة".
التساؤلات جميعًا مبررة مشروعة، والشعب الكادح المقهور الذي يستهدفه الشيوعيون بنضالهم وتضحياتهم ليس مؤيدًا متعاطفًا أو حتى راغبًا في الاستماع، بل إنه يعادي ويتطرف في الرفض والنفور. تفسير مثل هذه الهواجس الإنسانية على ضوء الانتماء إلى "البرجوازية الصغيرة"، بكل ما تتسم به من تردد واضطراب وارتباك، لا يمكن أن يكون توصيفًا دقيقًا حاسمًا، ذلك أن الالتفات إلى المصاعب والتحديات بمثابة تقرير للحقيقة الموضوعية القائمة: "الضربات تلاحقنا. قليلون نحن. أوراقنا تعاني كي تصدر. وكيف لها أن تخترق خيمة الخوف المهيب وأن تصد ادعاءات الإعلام الحكومي"؟".
الضعف شعور إنساني لا يعيب صاحبه بقدر ما يؤكد إنسانيته التي لا تختلف عن غيره من البشر، الأقل وعيًا وثقافة وقدرة على التضحية، لكن اللوحة ليست قاتمة السواد كما قد يبدو للوهلة الأولى، وهؤلاء العاديون البسطاء محدودو الثقافة يمتلكون طاقة عطاء هائلة. سعدية، العاهرة المتقاعدة ذات السلوك المستهتر والولع بالنكات الجنسية، تعرف حقيقة الشاب الشيوعي الهارب ولا تتورع عن حمايته والحنو عليه. الاتصال الجنسي بينهما يعبر عن أسلوبها غير المسبوق في التعاطف العملي بلا كلمات: "بعد خمس سنوات وأكثر استعدنا ذكرى هذا اليوم. أمسكت بيدي بعنف: كنت عارفة حكايتك. وعارفة إنك هربان. وإنهم عايزين يسجنوك. صعبت عليّ. مش عارفة إزاي أخذتك في حضني. لماذا الدموع؟ وده سؤال؟ لأنك الراجل الوحيد اللي حسيت إنه مش بتاعي.. وإنه حيتخطف مني. 
تأملت المنطق. تخيلت البدوي الذي يبادر ضيفه بالطعام ليشعره بالأمان. يأكلون معًا عيش وملح".
معرفة وكتمان، وانصراف صلب عن التفكير في المخاطر التي يمكن أن تترتب على وجود الشاب المختبئ المطارد. يصل الكرم إلى ذروته عبر لغة الجسد والاحتواء، فما الذي تملكه فقيرة مثلها إلا أن تمنح ما تملك، وتكرم ضيفها بالزاد القليل الذي تستطيع أن تعطيه؟.
الفقراء البسطاء الشعبيون، المحاصرون بأوجاع وآلام شتى، ينتمون إلى عالم مختلف عن ذلك الذي يعرفه المثقفون من أصحاب الأفكار النظرية. الاندماج معهم هو السبيل الوحيد لاكتشاف القوانين الخاصة التي تحكم سلوكهم؛ السلوك الذي قد يبدو كريهًا منفرًا بعيدًا عن التحضر عند من لا يدركون أبعاد اللوحة: "الإنصات عند هؤلاء الناس ترف لا يحتمل. يهربون من آلامهم بالحديث والثرثرة. والإنصات يعني التأمل. أي بؤس أن يتأمل الإنسان في تفاصيل حياة رديئة وبائسة. التأمل يقتاد أناسًا كهؤلاء نحو هاوية معتمة، يهربون منها دومًا إلى اللاتفكير والصوت العالي والبذاءات الضاحكة".

التعاطف بلا فهم يقود إلى هاوية القطيعة المتبادلة، والاقتراب هو الأداة الوحيدة للمعرفة والتقييم الموضوعي الذي يتكئ على معطيات حقيقية تتسم بها حيوات البشر التعساء، الذين يهربون بالثرثرة وتغييب العقل والبذاءة والصوت الزاعق. ينصرفون عن الاستماع إلى عزف مجدي، ويسخرون في قسوة من "دوشة" موسيقاه. يجهلون بطبيعة الحال أنه هارب من المطاردة البوليسية مثل مدحت. الشاب الفنان الرقيق لا يندمج معهم ولا يهتم بالسياسة، وتتمثل تهمته في أنه ابن عم مصطفى خميس، العامل في شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار، الذي أعدمه ضباط يوليو بتهمة الشيوعية بعد فترة قصيرة من إحكام سيطرتهم على السلطة. لم تكن محاكمته الهزيلة السريعة غير العادلة إلا فعلًا غرائبيًا عبثيًا ظالمًا، ينم عن توجه النظام الجديد.
يقيم مجدي وحيدًا منعزلًا مسكونًا بالذعر المزمن، وعندما يعثر الراوي في غرفته على كتاب للمؤرخ عبدالرحمن الرافعي، يبادر الشاب عاشق الموسيقى بالتبرير والدفاع كأنه متهم يواجه مأزقًا خطيرًا: لمح الكتاب في يدي. قال معتذرًا.. ده كان زمان أيام الشقاوة (حتى القراءة تحتاج لاعتذار وتبرير! ولم أفهم)..".
الرافعي مؤرخ تقليدي محافظ ممن يرضى عنهم النظام الجديد ويباركهم، ولا تمثل كتبه، اقتناء وقراءة، تهمة تستدعي الخوف والاعتذار وانتحال الأعذار، لكن المناخ البوليسي الضاغط المهيمن يبث الرعب بلا منطق. من خلال حكاية مجدي، يمكن استيعاب تجربة الراوي وإدراك المزيد من أبعادها: «لست سياسيًا ولم أكن. ابن عمي قتلوه. كان أخي وصديقي ومعلمي».
قصة ابن العم تقدم نموذجًا متكاملًا عن طبيعة النظام الجديد والمنهج الذي يحكم سلوك قادته العسكريين. خميس عامل شاب، مثقف طموح مولع بالمعرفة، ومثله لا يمكن أن يمثل خطرًا على النظام القوي المتحكم، لكن حياته تنطفئ فجأة في خطوات متسارعة لا يسهل التواصل معها واستيعابها: "يقرأ كتبًا كثيرة. ويتناقش في السياسة. وكان الإضراب. قبضوا عليه. وأعدموه. في يومين انتهى كل شيء. ذهب أبي ليودعه، كان مبتسمًا وهادئًا. أرسل لي وصية أن أستمر في العزف فالموسيقى لغة المستقبل".
لا تهمة حقيقية جادة تستدعي توقيع الحد الأدنى من العقاب، فضلًا عن الإعدام الجائر على هذا النحو. لاشك أن صلة القرابة وعلاقة الصداقة والوصية الأخيرة بالاستمرار في العزف، تترك أثرًا كبيرًا في وجدان مجدي وسلوكه العفوي، ومن هنا ينفعل بعد تنفيذ حكم الإعدام، وغاية ما يفعله هو الإمساك بقطعة طباشير ليكتب على الحائط: "يسقط القتلة". عبارته البسيطة هذه تقوده إلى جحيم الأجهزة الأمنية الشرسة، وتعرضه للتعذيب الوحشي بعد اعتقاله: "بالطباشير ظللت أكتب على كل جدار.. يسقط القتلة. لم نجد قبره. فليكن كل جدار شاهدًا له. أمسكني مخبر. جرني إلى القسم. ضربوني. فتشوا البيت. كانت كتب الرافعي دليلًا ضدي والكمان أيضًا كان دليل إدانة. وكمان بتاع مزيكة؟ وعندك كتب؟".
مثلما يهرب مدحت من خطر الاعتقال والمطاردة، يفر مجدي من لعنة التعذيب والإهانة والإساءة المتكررة وطوفان التحقيقات العبثية في تهمة لا وجود لها ولا دليل عليها. ليس لديه ما يعترف به، فلا شأن له بالسياسة والتنظيمات اليسارية، لكنهم لا يقتنعون ويبحثون عن اعتراف مستحيل: "كنت أنا الفريسة المتاحة. كل منشور يُوزع. كل شعار على جدار يأتون.. وقررت أن أترك لهم كل شيء. البلد والبيت والمدرسة".
الهروب لا يضع نهاية لمأساة مجدي، بل إنه يؤكد لمطارديه خطورته الوهمية ومسئوليته عن كل الأنشطة المعارضة التي تشهدها كفر الدوار، وبتعبير أمه عندما تلتقيه سرًا: "الصقور تبحث عنك. المخبرون يملأون الشارع. اختفاؤك صوّر لهم أنك خطير، وأنك خلف كل تذمر. المنشورات كثيرة. سيضربونك من أجلها جميعًا".
مدحت لا يمثل ظاهرة استثنائية في الهروب من المطاردة البوليسية الشرسة، فلا أحد ينجو من الكابوس العام الضاغط الذي يعني سيطرة الرعب على من يعشقون الموسيقى منصرفين عن السياسة. في دولة تحكمها الأجهزة الأمنية وتسيطر على إيقاعها، يحظى سائق في جهاز المخابرات، الأستاذ محمد!، بمكانة تتيح له أن يتحكم في المصائر ويمارس القمع لأسباب شخصية خالصة، ولا تهمة تطول من يُعتقلون ويعذبون إلا اعتراضهم على زياراته المريبة لزوجة اللص السجين!.
"الأستاذ" محمد يتردد علانية على غرفة أم نادية، في مخالفة صريحة غير مألوفة لكل الأعراف والتقاليد الشعبية السائدة خلال المرحلة التاريخية. العمل في الجهاز الأمني الحساس حديث التكوين، في وظيفة خدمية متواضعة، لا يمنح "الأستاذ" حق التجاوز على هذا النحو السافر، والصدام مع الدمث الوديع مجدي يدفع السائق إلى انتقام مروع، قوامه طابور من الرجال يهبطون في الفجر. يتوهم مدحت أنه المستهدف: "لكنهم كانوا يعرفون طريقهم. كسروا باب مجدي. اقتطعوه من سريره وهو بالبيجاما".
يمتد الأذى ليطول "البرنس" لأنه يتجاسر بالتدخل والتساؤل عن طبيعة ومهمة المقتحمين، ويتعرض المعتقلان بلا تهمة لصنوف شتى من التعذيب. لابد هنا من سؤال منطقي لا تصعب الإجابة عليه: إذا كان سائق في المخابرات يملك كل هذه السلطة والقدرة على التنكيل بالأبرياء، فكيف يكون الأمر لو أنه ضابط من أصحاب النفوذ المضاعف بالضرورة؟!.
معاناة "البرنس" تترك أثرًا مدمرًا على الرجل البعيد عن الاختلاط والاندماج مع جيرانه، وعذابات مجدي، في كفر الدوار والقاهرة معًا، تنهض دليلًا على توحش الأجهزة الأمنية واستهانتها الشاملة بحقوق السياسيين وغير السياسيين. في هذا الإطار، يكتسب اختباء مدحت مغزى أكثر شمولًا، وتتأكد مقولة «إن المناخ القهري الضاغط يستدعي المقاومة والمعارضة والاحتجاج، دون نظر إلى غياب الندية والتكافؤ بين طرفي الصداع».
توحش الأجهزة الأمنية لثورة يوليو ينبئ عن كارثة حقيقية، وحديث السائق عن نفوذه غير المحدود قد لا يخلو من مبالغة وميل إلى المباهاة، لكن الوقائع العملية تكشف عن قدر كبير من الصواب فيما يقوله مهددًا، أما الانتقام الشعبي الماكر الذي تتفنن لوزة وأمها في تدبيره، ونجاحهما المدوي في تجريس "الأستاذ" وفضحه واقتياده عاريًا إلى قسم الشرطة، فإنه يؤكد مجددًا أن المبارزة بين الشعب والسلطة ليست من جانب واحد ومحسومة النتيجة، ولا يمكن أن تكون.
قد يكون الشيوعي الشاب المختبئ هو المحور والعنصر الأهم في بناء اللوحة الروائية متعددة الأبعاد، لكن بطولته لا تكتمل بمعزل عن العناصر الأخرى من المحيطين به، أولئك البسطاء المسلحين بطاقة مقاومة مخبوءة، يتحايلون بها على التحديات.
مدحت اسمه البديل، وما أكثر الأسماء الحركية في حياته، ومثل هذه الوفرة تعني أنه بلا اسم راسخ مستقر يعتاد عليه ويألفه: أليس غريبًا أن تكون بأكثر من اسم؟.
اسمك في الحزب، واسمك في المكان الذي تعيش فيه، وهناك أيضًا ذلك الشيء المنزوي تمامًا في أعماق بئر سلم الذاكرة.. اسمك الحقيقي.
يتغير الاسم وفق الظروف المحيطة، ويتحول الشخص الواحد إلى شخوص، لا صلة تجمعهم إلا الخضوع للتحولات التي لا تتوقف. في خضم هذه المعاناة والازدواجية الكابوسية المزمنة، لا يتوقف الإصرار على العمل السياسي، ذلك أن الاختباء والهروب من المطاردة لا يمكن أن يكون في ذاته عملًا نضاليًا: "الخروج بالنهار ممنوع، لكن أمامك مهام كثيرة بعد حلول الظلام، أن تختبئ ولا يقبضون عليك أبدًا فهذه مسألة سهلة، لكن الصعب أن تواصل نضالك السياسي والحزبي وأنت مختبئ، أن تلتقي بالناس، أن تغامر في كل لقاء، وأن تتحمل مسؤولية أي خطأ قد يقع فيه واحد من هؤلاء الناس الذين تقابلهم.. الصعب أن تجعل من اختفائك عملًا نشطًا وليس مجرد هروب".
في خضم العمل النضالي الشاق المتصل، قد تظهر أسئلة وشكوك وهواجس عن الجدوى والمعنى، وقد تطل أشباح الإحباط واليأس، لكن المحصلة النهائية هي الاستمرار في العمل والالتزام الحزبي، وعندئذ تذوب التناقضات أو تتراجع مقتربة من التلاشي.
مع اقتراب رحلة الاختباء من نهايتها، يتهيأ مدحت لحلقة جديدة في سلسلة الاختباء مع رفيق جديد وباسم حركي جديد. يتفانى الجيران في العطاء وتقديم الدعم للشاب الجدير بالحب والحماية، ولاشك أن تعاطفهم هذا لا يعني الاقتراب منه فكريًا وسياسيًا، بل هو التعاطف الإنساني الذي يتجاوز الفكر والسياسة. في السطور الأخيرة من الرواية، يعلن الراوي عن امتنانه ومحبته، ويشعر أنه مدين بالكثير لجيرانه: "دين من ذلك النوع الذي لا يؤدي لأشخاص معينين وإنما ينمو ليصبح أملًا، وعرقًا، ودمًا".
إنه، على نحو ما، دين يتجاوز الذاتي إلى الموضوعي، والفردي إلى الجمعي، والوفاء به يقترن بالعمل من أجل مستقبل يتحتم أن يتشكل عبر مفردات الأمل والعرق والدم".